نعرض لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى المقال الاتي:
الإرهاب المعاصر وصناعة الهويات الجديدة - وضوح نيوز, اليوم السبت 20 ديسمبر 2025 10:55 صباحاً
بعد أكثر من ست سنوات على انهيار تنظيم "داعش" الإرهابي، يظل حاضرا، ليس بصفته قوة مسيطرة على الأرض، بل قوة إيديولوجية تُلهم الإرهاب الفردي حول العالم. الهجوم الأخير في سيدني، يوضح بجلاء هذه الظاهرة الجديدة: منفذو الهجوم لم يكونوا جزءا من خلايا سرية، ولم يخضعوا لتدريب عسكري رسمي، لكنهم استلهموا سرديات تنظيم "داعش" الإرهابي وخطابه عبر الوسائط الرقمية، ما يعكس تحوّل التنظيم من كيان عملياتي منظَّم إلى إطار إيديولوجي قابل للتوظيف من أي فاعل إرهابي.
والواقع أن التنظيم يقدّم سردية مبسطة وقابلة للتكيّف تقوم على ثنائية (نحن/هم)، وتُضفي شرعنة زائفة على الإرهاب المتخطّي الحدود بوصفه فعلا انتقاميا أو ردا على مظالم متخيَّلة، فضلا عن توفيره هوية وسردية جاهزتين يمكن أي إرهابي في العالم توظيفهما بوصفهما شكلا من الخداع المعرفي لتبرير فظاعة أفعاله الإرهابية.
هذا ما يمنح التنظيم قدرة على البقاء رغم الهزائم. فهو لم يعد يعتمد على السيطرة أو القيادة أو الأرض، بل على انتشار المعنى. وكلما زادت حالات العنف الفردي في مجتمعات تعاني الاستقطاب والاغتراب، زادت قدرة "داعش" على إعادة إنتاج حضوره، ولو من دون تنظيم فعلي.

رئيس وزراء أوستراليا أنطوني ألبانيز، أكد أن الهجوم كان مستوحى من "داعش"، بعد رصد بث فيديو رقمي يوضح أن التنظيم أصبح يُنتج تأثيره على الأفراد عن بُعد، عبر التحفيز الفكري أكثر من التخطيط المباشر. هذا التحول يعكس استراتيجية "داعش" الجديدة، القائمة على الاستثمار في الإرهاب الفردي أو ما يسمى "الذئاب المنفردة" ومنحه معنى إيديولوجيا، بدلا من محاولة السيطرة على الأرض أو قيادة تنظيمات معقدة.
الإرهابي الجديد، كما يصفه أكثر من باحثٍ وخبير، يختلف عن الصورة التقليدية. فهو غالبا شخص معزول اجتماعيا، ذو تاريخ إجرامي، يعاني اضطرابات نفسية، ويجد في خطاب "داعش" تفسيرا جاهزا لغضبه أو إحباطه. التطرف العنيف هنا يسبق الإيديولوجيا. فالتنظيم لا يدفع الفرد بالضرورة إلى ارتكاب الفعل، بل يمنحه لاحقا سردية وهوية لتحويل الفعل الفردي إلى رسالة عالمية.
تجارب أوستراليا وبريطانيا تؤكد خطورة هذا التحول. في هجمات سيدني ومانشستر نفذ مهاجمون أعمالهم من دون ارتباط تنظيمي واضح، لكن "داعش" كان حاضرا في الخلفية الرقمية. في بريطانيا، أظهرت التحقيقات أن الأفراد الذين ليس لديهم انتماء تنظيمي قد يصبحون فجأة فاعلين إرهابيين، مستلهمين خطاب التنظيم. المشكلة أن أدوات مكافحة الإرهاب التقليدية صُممت لرصد التنظيمات، لا لرصد التحولات النفسية والمعنوية التي تقود إلى التطرف العنيف والإرهاب الفردي.
في الوقت نفسه، يواصل تنظيم "داعش" تطوير تكتيكه الدعائي عبر مختلف الأدوات الرقمية التي وفرتها سيرورة العولمة، خصوصا من خلال آلياتها التكنولوجية المحايدة. ففي هجوم سيدني الأخير، لم يعلن التنظيم أي رابط تشغيلي مباشر بالمنفذين، لكنه أشاد بهم في 18 كانون الأول / ديسمبر في افتتاحية مجلة "النبأ" الأسبوعية الناطقة باسم التنظيم، واصفاً إياهم بـ"الأبطال والأسود"، في خطوة تعكس اتجاهاً جديداً، وربما سياسة جديدة تقوم على ترك الهجمات الإرهابية الفردية مفتوحة للتفسير، وتجنب التزام المسؤولية المباشرة، بينما يُعزى له فقط ما يريد ربطه بإيديولوجيته. هذا التمويه يتيح له الحفاظ على حضوره رغم تراجع قدراته العملياتية عالميا، ويولّد حالة من الغموض حول من هو المرتبط فعليا بالخطاب التنظيمي ومن هو مستقل.
الأمثلة الأخيرة تبرز نوعا جديدا من الإرهابيين: نمط جديد يتكون من أفراد قد يرتكبون أعمالا إرهابية من دون إيديولوجيا واضحة، وهو ما يُعرف أحيانا بحسب بعض الخبراء بـ"الإيديولوجيات المختلطة وغير المستقرة". في بريطانيا مثلاً، كانت أغلب الحالات التي أحيلت خلال 2024–2025 لبرنامج "الوقاية" ضمن "استراتيجية بريطانيا لمكافحة الإرهاب" التي تتألف من أربعة برامج هي: الوقاية، الملاحقة، الحماية، والاستعداد، لأشخاص من هذا النمط، مما دفع الحكومة إلى طرح إعادة تعريف مفهوم التطرف لتركيز الاهتمام على السلوكيات المثيرة للقلق، بدلا من الانتماءات الفكرية، وهو ما يعكس القانون الدولي الذي يركز على السلوكيات.
في الدول العربية والشرق الأوسط، تكتسب هذه التحولات أهمية خاصة. فالدولة لم تعد تواجه خطر تنظيم يسعى إلى السيطرة على الأرض فحسب، بل مواجهة سرديات فضفاضة وخطاب قادر على استغلال هشاشة الأفراد والانقسامات الاجتماعية والسياسية. استمرار النزاعات والصراعات المسلحة، والاستقطاب السياسي، والتهميش الاجتماعي للشباب، والضغوط الاقتصادية، تؤدي إلى بيئة خصبة لانتشار خطابات وسرديات متطرفة، تتجاوز قدرة الأجهزة الأمنية التقليدية على التنبؤ والتدخل المبكر.
تتطلب مواجهة تهديد إرهاب "داعش" نهجا متعدد الأبعاد. إلى جانب المراقبة الأمنية، هناك حاجة إلى تدخلات وقائية تشمل الصحة النفسية، والتعليم، والخطاب الديني المعتدل، والتوعية الرقمية، والعمل على إدماج الشباب في المجتمعات المحلية.
فالتنظيم في صيغته الحالية، لا يصنع الإرهابيين بالضرورة، لكنه ينتظر ظهورهم، ليعطي إرهابه اسما وهوية ومعنى وسردية، وهو ما يجعل التهديد حاضرا رغم غياب التنظيم المباشر.
من هنا، تبدو الحاجة مُلحّة إلى سياسات وقائية تتجاوز الحلول الأمنية، وتشمل الخطاب الديني، والصحة النفسية، والاندماج الاجتماعي، والوعي الرقمّي، بما يحدّ من قدرة التنظيمات الإرهابية على استغلال الإرهاب وتحويله إلى أداة عنف سياسي يتخطى الحدود.
مدير مركز "شُرُفات لدراسات وبحوث العولمة والإرهاب"



0 تعليق