نعرض لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى المقال الاتي:
اليوم التالي في الجنوب العربي - وضوح نيوز, اليوم الثلاثاء 23 ديسمبر 2025 05:30 صباحاً
بعيداً من ضجيج السرديات التي تحاول توصيف ما يجري في الجنوب العربي باعتباره خروجاً عن المسار، يبقى السؤال الحقيقي أبسط وأعمق، ماذا يريد الناس بعد سنواتٍ من الحرب والفوضى؟
ليس السؤال اليوم من يسيطر على الخريطة؟ بل من يستطيع أن يحمي الإنسان ويُعيد معنى الاستقرار إلى حياته. فالحروب الطويلة لا تصنع خطوط تماس فحسب، بل تنتج “سيولة أمنية” تُولد منها شبكات تهريب، وتتنفّس عبرها جماعات التطرف، وتستثمرها القوى المتصارعة كلما بدا أن الأمل يقترب. ومن هنا يصبح "اليوم التالي" لحظة فاصلة. إما الانتقال من منطق الضرورة إلى منطق الاستقرار المستدام، وإما عودةٌ إلى الفراغ نفسه بواجهات جديدة.
والجنوب العربي، قبل أن يكون جغرافيا، هو حكاية هوية وتجربة دولة وذاكرة مجتمع. عرف الجنوب شكلاً من أشكال الدولة قبل وحدة 1990، ثم دخل تجربةَ وحدةٍ لم تُنتج شراكة متكافئة في نظر قطاع واسع من أبنائه، انتهت إلى صداماتٍ وتهميشٍ طويل. وبعد حرب 1994 ترسّخ شعورٌ بأن الجنوب دُفع إلى الهامش سياسياً واقتصادياً، وأن الدولة تحولت في كثير من الأحيان إلى شبكة نفوذ لا عقدَ مواطنة.
لذلك لم تكن المطالبة الجنوبية وليدة موجة طارئة، بل مسار تراكمي بدأ منذ التسعينات ثم اتسع حضوره في الشارع، قبل أن تُعيد التحولات اللاحقة طرح السؤال من جديد: إذا كانت تكلفة اختلال الدولة تُدفع في أمن الجنوب وموارده وفرص شبابه، فلماذا يُطلب منه دائماً أن ينتظر حلاً شاملاً قد يتأخر سنوات؟
لهذا تُقرأ التحولات في حضرموت والمهرة لا بوصفها توسيعاً لنطاق التأمين فحسب، بل بوصفها امتحاناً لمدى قدرة الجنوب على تحويل المخاطر إلى مشروع استقرار. فالشرق الجنوبي ليس مساحة سهلة؛ إنه بيئة ذات خصوصية اجتماعية وقبلية، وتوازنات محلية حساسة، وموارد قد تكون نعمة إذا أُديرت بعقل الدولة، أو عبئاً إذا تُركت لاقتصاد الحرب.
وهنا يتضح أن "اليوم التالي" ليس مؤسساتٍ بالمعنى الإداري فقط، بل سردية عدالة وحق. ثمة قراءة تُبالغ في “حتمية الجغرافيا” حتى تكاد أن تُحاكم الجنوب بجرم الجغرافيا، وكأن الإرادة الشعبية تفصيلٌ زائد في معادلة السياسة. لكن السياسة ليست خرائط وحدوداً فحسب، إنها عقدٌ اجتماعي وتمثيل ومصالح متبادلة، والسيادة لا تُدار كمنحةٍ مشروطة ولا كملفٍ مؤجل إلى ما لا نهاية. وفي الملف اليمني سجالٌ يعكس عمق التحول: فريق يرى أن تقرير مصير الجنوب شأنٌ يخص أبناءه لأن الوحدة -في نظرهم- لم تُبنَ على عقدٍ سياسي متكافئ ولا على تفويضٍ شعبي واضح، وفريق يخشى أن العودة إلى دولتين تفتح باب تفكك أكبر. خلف هذا الجدل سؤال واقعي لا يمكن تجاهله: هل يُطلب من الجنوب أن يبقى معلّقاً على مستقبلٍ غامض في الشمال بينما يدفع ثمن الفوضى والأمن المتآكل؟
ومع ذلك، فإن قراءة مسؤولة لليوم التالي تُدرك أن أمن الجنوب لا يعيش في فراغ؛ فاستدامته تتأثر بما يجري شمالاً، حيث يفرض الحوثيون، بوصفهم القوة المهيمنة في معظم الشمال، معادلة تهديدٍ ممتدة تتجاوز اليمن إلى أمن الإقليم والممرات الحيوية. وإلى جانب ذلك، يبقى المشهد الشمالي الآخر ضبابياً؛ قوى تتنازع النفوذ أكثر مما تُنتج مشروع دولة، ولا تزال قدرتها ورغبتها في تغيير قواعد اللعبة موضع سؤال. لكن الواقعية السياسية تقول أيضاً إنه لا يجوز أن يُختطف مستقبل الجنوب رهينة لجمود الشمال، ولا أن تُطلب من الشعوب حياةٌ مؤجلة بانتظار "حل شامل" قد لا يأتي قريباً. وحين تتآكل الدولة، يصبح واجب الفاعلين على الأرض أن يبنوا ما يستطيعون بناءه: أمن يومي، وخدماتٍ أساسية، ونموذج يثبت أن الاستقرار قابل للحياة لا مجرد شعار.
لقد استطاع الجنوب، بتضحيات أبنائه، أن يُضيّق مساحة الإرهاب ويُعيد قدراً كبيراً من الأمن إلى مدنه وسواحله. ومع تماسك الهوية الجنوبية، وتبلور قنوات تمثيل تعكس المزاج العام، يصبح حق أبناء الجنوب في مناقشة مستقبلهم -ضمن قواعد سلمية- أكثر حضوراً من أي وقت. ومعيار النجاح في المرحلة المقبلة لن يُحسم بالخرائط وحدها، بل بقدرة الجنوب على تحويل المكاسب إلى حياةٍ يومية: أمنٌ يُطمئن الناس، واقتصادٌ يفتح أفقاً للأمل، وسرديةٌ عادلة تُنهي نزيف الزمن من أعمارهم.
*كاتب إماراتي



0 تعليق