الإنسان بين الطمع والخوف: من الفأس إلى الذكاء الاصطناعي - وضوح نيوز

النشرة (لبنان) 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

نعرض لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى المقال الاتي:
الإنسان بين الطمع والخوف: من الفأس إلى الذكاء الاصطناعي - وضوح نيوز, اليوم الاثنين 15 ديسمبر 2025 11:35 صباحاً

بيار الخوري*

 

 

منذ أن نظر الإنسان إلى ما حوله، رأى العالم في أربع مراتب: جمادٌ لا ينمو، ونباتٌ ينمو ولا يشعر، وحيوانٌ يتحرك ويحسّ، وإنسانٌ يعي ويفكر.

في المراتب الثلاث الأولى تتعدد الأنواع: صخورٌ وأتربةٌ ومعادن، أشجارٌ وزهورٌ وحبوب، كلابٌ وأسودٌ وطيور...

أما الإنسان فبقي نوعًا واحدًا: Homo sapiens، متشابهٌ في بنيته، متمايزٌ في وعيه، لكنه يحمل في ذاته أعقد التناقضات.

فالحيوان يقتل حين يجوع، لأنه عبدٌ لخوفه من الفناء، أما الإنسان، فيقتل حين يشبع، لأنه عبدٌ لطمعه في المزيد.

بين الخوف والطمع يتأرجح تاريخه كله:الخوف يدفعه إلى الاكتشاف، والطمع يدفعه إلى التملك، وبين الاكتشاف والتملك وُلدت الحضارة,  وبدأ الانقسام.

عندما صنع الإنسان الفأس أول مرة، صنعها من رحم الخوف، كي لا يموت جوعًا، وكي يقطع مسافةً بينه وبين الافتراس. كانت الأداة امتدادًا لذراعه، وسيلةً للبقاء، لا للهيمنة.

في تلك اللحظة الأولى من التاريخ، كان كل فردٍ أو جماعةٍ تصنع أدواتها بنفسها؛من ينتج هو من يستهلك، وكانت الطبيعة حقلًا مشتركًا بين الجميع.

لكن مع الزمن، حين تحوّل الخوف إلى طمع، بدأ التحول الكبير. لم تعد الأداة وسيلة للبقاء فحسب، بل صارت وسيلةً للسيطرة. من امتلكها أراد أن يمتلك غيره، ومن عرف كيف يُنتجها أراد أن يحتكر إنتاجها. وهكذا انقسم البشر إلى من يصنعون ومن يستهلكون، ومن يملكون وسائل الإنتاج ومن يخضعون لها. ولدت السلطة من رحم الأداة، وولد الاغتراب من رحم العمل.

ومع نشوء العلم، تعقّدت الوسيلة، واتسع الفارق. لم يعد الفأس يُصنع في البيت، بل في الورشة، ثم في المصنع، ثم في المدينة الصناعية. انفصلت اليد عن العقل، وصار العمل وظيفة، والإبداع حكرًا على من يملك المعرفة والآلة معًا. ومع الثورة الصناعية، أصبحت الآلة تنتج الإنسان كما ينتجها: تصنع إيقاع يومه، وتحدد قيمته، وتعيد تعريف معنى العمل ذاته.

ثم جاءت الثورة الرقمية.
انتقلت الآلة من خدمة الجسد إلى مساندة العقل. لم تعد ترفع الأثقال بل تحسب الأفكار، ولم تعد تمدّ الإنسان بالقوة بل بالسرعة.
هنا، تساوت التكنولوجيا الرقمية مع العلم في طبيعتها المعرفية؛ فكلاهما ينتج معرفة، ويخلق واقعًا رمزيًا بقدر ما يخلق واقعًا ماديًا. ولأول مرة، بدا أن الإنسان قادرٌ على أن يُحرر نفسه من عبودية العمل.

لكنّ التاريخ لا يعيد نفسه إلا حين يرفض الإنسان أن يتعلّم. فبدل أن يستثمر الذكاء الاصطناعي التوليدي لتحريره من تقسيم العمل القديم، أعاد كثير من البشر إنتاج عاداتهم القديمة: من اعتاد أن يستهلك ظلّ مستهلكًا، ومن اعتاد أن ينسخ ظلّ منتحلًا، ومن خاف من الحرية عاد ليختبئ في تبعية الآلة.

الانسان والتطور (getty)

الانسان والتطور (getty)

فالإنسان، وهو على أعتاب التحرر، اختار طمأنينة العبودية. استخدم أداة الخلق ليعيد إنتاج ذاته كمستهلك، كأنما يقول لتاريخه: "لستُ جاهزًا بعدُ لأن أكون خالقًا".

ومع أن الذكاء الاصطناعي يمنح كل إنسانٍ إمكانية أن يصبح منتجًا للمرة الثانية في التاريخ بعد اختراع النار، فإن الخوف والطمع لا يزالان يتحكمان بمصيره: الخوف من أن يُستبدل، والطمع في أن يملك ما لا يُملك. وبينهما يتّسع الفارق بين منتجٍ واعٍ يوظّف الأداة، ومستهلكٍ غافلٍ تبتلعه منتجاتها.

إنها مرحلة دقيقة من تطور الإنسان:
قد تكون مرحلةً طبيعية في نضجه البطيء نحو وعي جديد، وقد تكون بداية انقسامٍ أبديٍّ بين "من يفكر بالأداة ومن يفكر بها كأداة.
فالذكاء الاصطناعي لم يعد سؤالًا عن التقنية، بل سؤال عن الإنسان ذاته: هل يستطيع أن يسمو على خوفه وطمعه في الوقت نفسه؟
هل يقدر أن يستخدم المعرفة لا ليكدّس، بل ليكتمل؟ أم سيبقى في دائرةٍ لا نهائية من إنتاج ما يستهلك واستهلاك ما يُنتج، حتى يفنى فيه الإنسان وتبقى الأداة؟

السؤال هنا لا يُغلق، بل يُفتح على ما بعد الإنسان نفسه: هل نحن نتطور حقًا, أم نعيد صياغة ضعفنا بأشكالٍ أذكى؟ هل الذكاء الاصطناعي هو أعلى أشكال وعي الإنسان، أم آخر مرآة يرى فيها عجزه عن أن يكون ما يتصوّر؟

*عميد كلية إدارة الأعمال، الجامعة الأميركية للتكنولوجيا

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق