نعرض لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى المقال الاتي:
في الـ"ريل بوليتيك": الروس أيضاً يبيعون حلفاءهم - وضوح نيوز, اليوم الاثنين 15 ديسمبر 2025 11:35 صباحاً
في أيام الحرب الباردة، كان ما يسمى "حركات التحرر العربية" تباهي الأمم الإمبريالية بعروة وثقى تربطها بالرفاق في موسكو، الذين يقدمون لها الدعم بلا حساب... من أصغر كلاشينكوف إلى أكبر شهادة جامعية في جامعة لومومبا للصداقة بين الشعوب، فيما كانت واشنطن تعرض حلفاءها في العالم في "بازار" المصالح الأميركية. وحتى اليوم، ما زال هذا الزعم سارياً، رغم ما شهده العالم في أيام الـ"بيريسترويكا" التي هدمت جدار برلين.
رئيس الاتحاد السوفياتي الراحل ميخائيل غورباتشوف يحضر حدثاً تذكارياً في برلين عام 2009 (أ ف ب)
ولكن... يدور تساؤل جيوسياسي كبير حول الآتي: هل يشكل التخلي الروسي عن حليف رئيسي في الشرق الأوسط مثل بشار الأسد حالة فريدة أم نمطاً تاريخياً ثابتاً في سياسة موسكو الخارجية؟ لا جواب فعلياً عن هذا السؤال من دون تجاوز السرد العاطفي لـ"الخيانة" نحو تقييم استراتيجي "بارد"، يركز على مفهوم "المصالح أولاً". تالياً، هل التخلي عن الحلفاء ناتج من انهيار أيديولوجي قسري، كما حدث في الحقبة السوفياتية المتأخرة، أم سياسة براغماتية متعمدة لتثبيت نفوذ روسيا بوصفها قوة عظمى في نظام عالمي متعدد الأقطاب؟
كانت حالات التخلي في الفترة السوفياتية المتأخرة مدفوعة بأسباب هيكلية كبرى تتعلق بالإنهاك الاقتصادي والتغيير الأيديولوجي العميق بقيادة آخر السوفيات، ميخائيل غورباتشوف. لم تكن هذه الحالات "بيعاً" تكتيكياً لضمان مكسب فوري، بل كانت نتيجة لانهيار شامل للإمبراطورية الأيديولوجية.
اجتماع لقادة حلف وارسو. (وكالات)
تفكيك حلف وارسو: التخلي عن الكتلة الأيديولوجية (1989-1991)
في أواخر ثمانينيات القرن الماضي، جاء قرار القيادة السوفياتية باختيار "الإصلاح طويل الأجل" بديلاً عن "السيطرة قصيرة الأجل". فالاتحاد السوفياتي لم يعد يمتلك الإرادة السياسية أو الموارد الاقتصادية لدعم الأنظمة الموالية له في أوروبا الشرقية، وهذا حرّك "تأثير الدومينو" غير القابل للعكس.
كانت أبرز الوقائع سقوط جدار برلين في تشرين الثاني/نوفمبر 1989، وتفكك الكتلة الشرقية كاملة من دون مقاومة عسكرية سوفياتية. لم يكن هذا التخلي مخططاً له استراتيجياً لخدمة مصالح كبرى، بل كان نتاجاً مباشراً لـ "فشل نظامي" شامل. وقد أشاد ">غورباتشوف نفسه، في خطاب استقالته، بالإنجازات التي حققتها إدارته، كتحقيق الحريات السياسية والدينية، والقضاء على الشمولية. لكن هذا التخلي القسري خلق فراغاً جيوسياسياً استغله الغرب لاحقاً لاحتواء روسيا، حيث صمد حلف الناتو وعزز آليات الشراكة من أجل السلام بعد تفكك الاتحاد السوفياتي.
محمد نجيب الله في كابول قبل رحيل السوفيات. (وكالات)
الخروج الأفغاني: التضحية بنظام نجيب الله (1989-1992)
تعد الحرب السوفياتية في أفغانستان مثالاً كلاسيكياً للتخلي الناتج عن إنهاء حرب استنزاف باهظة التكاليف. فقد انتهت هذه الحرب بفشل السوفيات في هزيمة المجاهدين الأفغان، وأدت إلى توقيع اتفاقيات جنيف (1988)، والانسحاب الكامل للقوات السوفياتية في شباط/فبراير 1989.
كان مصير نظام محمد نجيب الله مثالاً على الإهمال الاستراتيجي القاتل: بقي نجيب الله يناور بدعم متضائل حتى عام 1992، لكن التخلي الحقيقي عنه تجسد في التجفيف البطيء للدعم اللوجستي والمادي. أدى الإهمال السوفياتي إلى تمرد جنرالاته، مثل الجنرال عبد المؤمن والجنرال عبد الرشيد دوستم، ما قطع الإمدادات عن كابل ومهد الطريق أمام المجاهدين بقيادة أحمد شاه مسعود للسيطرة على العاصمة.
لم يسقط نظام نجيب الله نتيجة صفقة كبرى، بل نتيجة "هجران" استراتيجي نتج من تدهور أولويات القيادة السوفياتية، ثم الروسية الحديثة، وهذا سمح للقوى المحلية بتفكيكه من الداخل.
في مرحلة روسيا الاتحادية، تحول التخلي عن الحلفاء من فشل نظامي إلى تكتيك واع ومحسوب ضمن استراتيجية الـ"ريل بوليتيك"، وأصبح التنازل عن مصالح الحليف أداة لإدارة النفوذ والسيطرة على التوازنات الإقليمية، وهذا يرسخ مفهوم "العلاقة التبادلية".
جندي روسي من قوات حفظ السلام في ساحة دير داديفانك الأرثوذكسي في ناغورنو قرباخ، 16 نوفمبر 2020. (أ ف ب)
اختبار القوقاز: التخلي الحذر عن أرمينيا في ناغورني قرباخ (2020)
أرمينيا حليف روسيا التقليدي، وعضو في منظمة معاهدة الأمن الجماعي (CSTO). ومع احتدام المواجهات بين أذربيجان وأرمينيا في إقليم ناغورني قرباخ في أيلول/سبتمبر 2020، أحجمت روسيا عن التدخل العسكري المباشر، واكتفت بدعوة الطرفين إلى "ضبط النفس ووقف النار والعودة إلى طاولة الحوار"، في موقف متحفظ وتقليدي.
كانت آلية "البيع القانوني" المبرر الروسي الأبرز: إقليم ناغورني قرباخ ليس عضواً في منظمة معاهدة الأمن الجماعي، وهذا يعني أن أرمينيا نفسها لم تتعرض لاعتداء خارجي يلزم دول المعاهدة بالتدخل العسكري. وهذا التفسير القانوني سمح لروسيا بتجنب تورط عسكري مكلف ضد أذربيجان، وتجنب مواجهة غير مباشرة مع تركيا التي دعمت أذربيجان. يثبت هذا الموقف أن روسيا تضع مصالحها الاستراتيجية في إدارة التوازنات الإقليمية (مع تركيا) والحفاظ على نفوذها مع الطرفين (أذربيجان وأرمينيا) فوق الالتزام الكامل تجاه حليفها التقليدي، لضمان استمرار دورها وسيطاً أمنياً إقليمياً لا غنى عنه.
قمة لمنظمة معاهدة الأمن الجماعي في موسكو. (وكالات)
ضغوط "الانفصالية": الدعم ورقة مساومة في أبخازيا
في الأقاليم الانفصالية المدعومة من موسكو مثل ">أبخازيا (اعترفت روسيا باستقلالها في 2008)، يتضح أن الولاء الروسي هو للهيكل الجيواستراتيجي، وليس للأفراد الحاكمين.
في عام 2023، عندما رفض نواب برلمان أبخازيا، تحت ضغط الاحتجاجات، التصديق على اتفاقية استثمارية مع روسيا تمنح مزايا واسعة للمستثمرين الروس، اضطر الرئيس الموالي لموسكو أصلان بزانيا إلى الاستقالة. ورغم انتقاد موسكو المعارضة بشدة وتحذيرها من التوجه نحو التصعيد ، فقد سمحت بتنحية شريكها السياسي المباشر، وهذا يمثل "بيعاً للأفراد" للحفاظ على "الأصول الاستراتيجية". فإذا أصبح الحليف المحلي عبئاً أو عائقاً أمام المصالح الروسية المباشرة، سواء أكانت اقتصادية أم عسكرية، يتم استبداله لضمان استمرارية النفوذ الروسي.
الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ورئيس النظام السوري البائد بشار الأسد. (وكالات)
ورقة بشار الأسد: المقايضة في سوريا
تعد الحالة السورية النموذج الأشد تعقيداً في سياسة "بيع الحليف"، حيث تم التنازل عن سيادة الحليف ومصالحه لتحقيق مصالح روسية متقاطعة مع قوى إقليمية ودولية (إسرائيل وتركيا). وهذا يرسخ فكرة أن النظام السوري البائد كان أداة مناورة في يد موسكو.
على الرغم من الدعم الجوي الروسي المكثف لقوات نظام الأسد في إدلب، أبرمت روسيا اتفاقيات مع تركيا، أبرزها اتفاق آذار/مارس 2020 الذي قضى بوقف إطلاق النار وإنشاء منطقة آمنة على طرفي الطريق الدولي M4. وهذا الاتفاق، الذي وصف بـ "الهش"، عرقل هدف الأسد المعلن باستعادة كل الأراضي السورية. هذا التنازل الروسي "باع" جزءاً من المكاسب العسكرية التي حققها الحليف، وكان ضرورياً استراتيجياً لـ "الحد من انزلاق الأوضاع العسكرية المتأزمة وتحولها إلى حرب مفتوحة بين الطرفين" ، ما يؤكد أن تجنب المواجهة مع قوة إقليمية كبرى (تركيا) يتقدم على الولاء المطلق للحليف المحلي.
التنسيق العسكري الروسي الإسرائيلي في سوريا مستمر "كالمعتاد". تحتفظ موسكو بأحدث أنظمة الدفاع الجوي من طراز "أس - 400"، لكنها لم توجه هذه الأنظمة يوماً نحو المقاتلات الإسرائيلية، ما سمح لإسرائيل بتوجيه ضربات مميتة لمواقع جيش الأسد وحزب الله والقوى الموالية لإيران طوال عام كامل، بعد عملية "7 أكتوبر". يمثل هذا السلوك بيعاً واضحاً للدفاع الجوي الكامل عن نظام الأسد وعن "محور المقاومة" الإيراني لصالح مصالح روسيا الأمنية العليا، وهي: حماية أصولها العسكرية في سوريا، وتجنب أي اشتباك مباشر أو غير مباشر مع إسرائيل. ويثبت هذا التنازل أن أمن القوات الروسية تقدم دائماً على حماية النظام الحليف في دمشق.
بوتين مستقبلاً الرئيس السوري أحمد الشرع في الكرملين. (أ ب)
وفي ظل التطورات السياسية الأخيرة، تواجه موسكو مساومات سياسية واقتصادية دولية بشأن مستقبل تواجدها العسكري في سوريا. يكمن "البيع النهائي" في تركيز روسيا على استخدام تواجدها العسكري (القواعد) كورقة مساومة لانتزاع اعتراف دولي بمصالحها الاستراتيجية، وللبقاء في سوريا بوصفها طرفاً صانعاً للانتصار الإقليمي، وليس كحامٍ مطلق لحليف ضعيف، وقوة تحكيم تضمن التوازنات الإقليمية من خلال المبالغة في تقييم دورها المنتظر في الجنوب السوري.
كانت زيارة الرئيس السوري أحمد الشرع الأخيرة إلى موسكو ناجحة بكل المقاييس. وربما مرّ موكبه على بعد كيلومترات قليلة من مكان إقامة بشار الأسد في منفاه الروسي. ما كان الروس محرجين من الدخول في مفاوضات لتسليم الأسد للقيادة السورية الجديدة، التي تتحدث عن محاكمته افتتاحاً لمرحلة "العدالة الانتقالية". لم يكن البحث جدياً هذه المرة، لكن انفتاح الروس على الفكرة دليل على أن الأسد المختبئ بين ظهرانيهم ليس إلا ورقةً للمساومة... وعلى أنه لم يكن يوماً أكثر من ذلك.



0 تعليق