"كأس العرب" والتقارب الشعبي العربي - وضوح نيوز

النشرة (لبنان) 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

نعرض لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى المقال الاتي:
"كأس العرب" والتقارب الشعبي العربي - وضوح نيوز, اليوم الخميس 18 ديسمبر 2025 03:35 مساءً


 د. وليد محمود عبد الناصر*

تكاد تكون هناك حالة من الإجماع الشعبي والإعلامي العربي على أن بطولة كأس العرب لكرة القدم المقامة فعالياتها خلال الشهر الجاري في دولة قطر شكلت فرصة نموذجية للتعارف والتقارب والتفاهم، بل ولمدّ أواصر المودة والمحبة بين أبناء الشعوب العربية التي تشارك منتخباتها الوطنية في البطولة وبناتها.

فقد وفرت البطولة وفعالياتها ساحة مناسبة للمشجعين من 16دولة عربية شاركت منتخباتها في البطولة، من أصل 22 دولة شاركت في الأدوار التمهيدية لها، للاقتراب من إخوتهم وأخواتهم في العروبة من مشجعي المنتخبات العربية الأخرى المشاركة، سواء كان هؤلاء المشجعون من العرب المقيمين أصلاً في دولة قطر بسبب ظروف العمل أو الدراسة أو غير ذلك من أسباب، أو جاؤوا من بلدانهم إلى الدوحة خصيصاً لحضور فعاليات البطولة والمشاركة في مباريات منتخباتهم وتشجيعها وشد أزرها.

 

 

AFP__20251215__888M3CF__v1__MidRes__FblA

 

 

 

 

وقد حققت تلك البطولة على مدار الـ18 يوماً التي التأمت فيها فعالياتها ما نستطيع أن نقول بقدر كبير من الثقة إن السياسة العربية عجزت عن تحقيقه ربما على مدار قرن من الزمان، ألا وهو إقناع الشعوب العربية بأن ما يجمع بينها وما تتفق عليه أعمق وأوسع بكثير مما تختلف عليه، وبناء، في بعض الحالات، أو تعزيز، في بعض الحالات الأخرى، حالة من الوعي والإدراك لدى الشعوب العربية، بما في ذلك القطاعات غير المعنية في الأحوال العادية بالأمور السياسية في صفوف تلك الشعوب، بأن المشترك في ما بين الشعوب العربية يتخطى بأشواط بعيدة المشترك في ما بين شعوب قارات ومناطق جغرافية أخرى، والتي حققت أشكالاً متعددة ومتباينة من التعاون في ما بينها في مختلف المجالات، وذلك مثل حالات الاتحاد الأوروبي أو تجمّع بلدان جنوب شرق آسيا (الآسيان) أو غيرهما. 
ومنذ زمن بعيد وكرة القدم، مثلها في ذلك مثل الكثير من أنواع الرياضة الأخرى، صارت تمثل جزءاً لا يتجزأ ممّا بات يطلق عليه تعبير "القوة الناعمة"، وانضمّت في ذلك إلى الثقافة والفنون بإبداعاتها المختلفة ومنتجاتها الكثيرة، من أدب روائي وقصصي وشعري ومسرح وسينما ودراما وموسيقى وغناء وغيرها، التي تُوظّف كلها لتعزيز العلاقات وتحقيق التعارف والتفاهم والتمكين من التقارب في ما بين الشعوب بما يتجاوز حدود الأيديولوجيا والسياسة والأمن والاقتصاد إلى آفاق إنسانية أوسع وأرحب، وربما كانت الأولمبياد ونشأتها في سياق الحضارة الإغريقية هي المثال الأول على دور الرياضة وأهميته في هذا السياق، واستمر ذلك الدور الفعال والمؤثر للرياضة على مدار التاريخ الإنساني بحقبه الحضارية المتعاقبة من دون توقف يُذكر، حتى خلال القرن العشرين بما شهده من أحداث جسام مثل الحربين العالميتين والحرب الباردة وغيرها، وذلك حتى نشأ مفهوم "القوة الناعمة" وتم تدشينه وبلورته بشكل محدد وواضح على يد أستاذ العلوم السياسية الأميركي البروفيسور جوزيف ناي عام 1990.  
ومن المتفق عليه منذ قديم الزمن أن العرب يملكون مقوّمات كثيرة مشتركة كفيلة، طبقاً للمعايير الموضوعية وبعيداً عن الاعتبارات العاطفية، بأن تجمعهم ولا تفرّقهم، وهي مقوّمات لا تتوافر مجتمعة وبالقدر والدرجة نفسهيما للغالبية العظمى من الأمم والجماعات الإنسانية الموجودة في صفوف البشرية اليوم، وذلك بما يتضمّن وحدة اللغة، التي صنعت بدورها بمرور الوقت وتراكم التجارب والخبرات وحدة معطيات ومكوّنات الثقافة والأبعاد المختلفة للحضارة، وكذلك وحدة أنماط التطوّر التاريخي والتكامل الجغرافي وسياقهما، بالإضافة إلى وحدة أطر الثقافة الاجتماعية ومرجعياتها بما تتضمّنه من عادات وتقاليد وممارسات ومنظومة قيمية ومبادئ ومثل عليا، ونطاق عريض من المصالح المشتركة وفرص التكامل الاقتصادي والتنمية المتوازنة، تقابلها مواجهات مشتركة تجاه الأعداء أنفسهم على مر التاريخ، وكذلك وحدة المصير في نهاية المطاف، ويمثل كل ما تقدم عوامل تؤكد حقيقة الوحدة وتدفع بعيداً عن أسباب الفرقة والتفتت والتشرذم.
وكان من المهم ما حدث خلال بطولة كأس العرب الأخيرة لكرة القدم في الدوحة، بغض النظر عن نتائج المنتحبات الوطنية للدول العربية المختلفة المشاركة عبر الأدوار المتتالية للبطولة، من غلبة حالة من الروح الرياضية بين صفوف المنتخبات المشاركة وأجهزتها الفنية والإدارية ومن جانب الجماهير الحاضرة على حد سواء، صاحبتها أيضاً حالة من الرضى من جميع المشجعين والمتابعين من مختلف الجنسيات العربية، وهو الأمر الذي أعلى من شأن المنافسة الشريفة في الإطار الرياضي البحت، حيث اختفت مظاهر التعصب، التي حدثت أحياناً للأسف في مناسبات رياضية وكروية عربية أخرى في الماضي القريب أو البعيد، وما يرتبط بها من بث للكراهية للفرق المنافسة أو التقليل من شأنها أو التحريض عليها وعلى جماهيرها، وتحوّل ذلك لاحقاً في حالات عدة سابقة إلى توترات ومشكلات سياسية في ما بين الدول والحكومات تضاف إلى ما هو قائم بالفعل من خلافات في ما بينها.
ولا يعني ما تقدّم أن كل الأمور أصبحت على ما يرام وأن العلاقات في ما بين الشعوب العربية أضحت في أفضل حالاتها أو أن ما تحقق من إيجابيات خلال كأس العرب الأخيرة لكرة القدم هو غاية المرتجى ونهاية المطاف، ولكن بالتأكيد ما تحقق هو نقطة بداية صحيحة تصلح لأن تمثل قاعدة للبناء عليها والانطلاق منها إلى آفاق أبعد وأكثر طموحاً وإلى مراحل أكثر تقدّماً في تعزيز أواصر الترابط والتقارب في ما بين الشعوب العربية من المحيط إلى الخليج، وهي أواصر ترتكز على عرى حقيقية ومستمدة من أرض الواقع وليست خيالية أو مصطنعة، لأن التاريخ البعيد والقريب أكد لنا بما لا يدع مجالاً للشك أن التقارب في ما بين الشعوب العربية، على أسس الفهم والاحترام المتبادلين، وبناء شبكة متكاملة وشاملة من المصالح المشتركة، هو الضمانة الرئيسية لإيجاد وضعية مستدامة من التضامن والتعاون والترابط والتنسيق في ما بين البلدان العربية التي يجمعها ما هو أكبر بكثير مما يفرقها.

* مفكر وكاتب مصري
 

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق