نعرض لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى المقال الاتي:
مصر في قلب التوازنات الإقليمية.. زيارة السودان ولبنان ودبلوماسية الظل - وضوح نيوز, اليوم الخميس 18 ديسمبر 2025 07:40 مساءً
في الشرق الأوسط، لا تُصنع التحوّلات الكبرى أمام الكاميرات، ولا تُعلن القرارات المصيرية عبر البيانات الصاخبة، بل تجري في الظل، خلف الأبواب المغلقة، حيث تُدار المصالح وتُعاد صياغة التوازنات بعيدًا عن ضجيج الشاشات.
ومن هذا المنظور، لا يمكن قراءة زيارة الرئيس السوداني إلى مصر، ولقائه اليوم الخميس بالرئيس عبد الفتاح السيسي في قصر (الاتحادية )، باعتبارها بروتوكولًا سياسيًا تقليديًا أو لقاء مجاملة، بل باعتبارها إشارة دقيقة إلى لحظة إقليمية شديدة الحساسية، تُعاد فيها هندسة العلاقات على مهل، استعدادًا لمرحلة ما بعد الفوضى والانهيارات.
فالمنطقة تقف اليوم على عتبة إعادة تموضع كبرى بعد تراجع مراكز قوى، وتفكك محاور، وصعود حسابات جديدة تبحث عن الاستقرار لا المغامرة، وعن المصالح لا الشعارات. تأتي الزيارة في توقيت بالغ الدقة، حيث لم تعد العلاقات المصرية- السودانية محكومة فقط بالجغرافيا أو التاريخ المشترك، بل باتت جزءًا من معادلة أمن قومي متداخل يمس وادي النيل، والبحر الأحمر، وحدود الدولة، واستقرار الإقليم بأكمله، خصوصًا في ظل الأوضاع المتوترة في دارفور التي تشكل تهديدًا مباشرًا على الأمن القومي المصري عبر تدفق اللاجئين، وزعزعة استقرار الحدود، وإضعاف مؤسسات الدولة في الخرطوم.
مصر في هذه اللحظة لا تتحرك بوصفها وسيطًا عابرًا، بل كدولة مركزية تدرك أن استقرار السودان ليس ملفًا خارجيًا، بل امتداد مباشر لأمنها الاستراتيجي، فيما يبحث السودان، المنهك بالحرب والانقسام، عن بوابة عقلانية للخروج من دائرة الفوضى، وعن شريك إقليمي يدعم مسار الدولة لا يغذي الصراع.
الرسالة الضمنية للزيارة واضحة: القاهرة ليست جزءًا من الأزمة، بل جزء من معادلة الحل، وصوتها حاضر في أي تسوية مستقبلية تخص السودان. بعيدًا عن الاستعراض، تتحرك مصر بهدوء لاعب يعرف متى يتقدم ومتى يصمت، مدركة أن الفراغ الإقليمي لا يبقى فارغًا، وأن الغياب عن ملفات الجوار يفتح الباب أمام قوى تبحث عن النفوذ لا الاستقرار.
من السودان إلى البحر الأحمر إلى شرق المتوسط، تعمل القاهرة على إعادة تثبيت دورها كركيزة توازن لا كطرف صدام، وتندرج زيارة الرئيس السوداني ولقاؤه بالرئيس السيسي ضمن هذا السياق الهادئ، حيث يُعاد ترتيب العلاقة على أسس جديدة تقوم على دعم الدولة الوطنية، ورفض سيناريو التفكك، ومنع تحوّل السودان إلى ساحة صراع مفتوح بالوكالة.
في المقابل، تحمل الزيارة دلالة داخلية سودانية لا تقل أهمية، فالحل العسكري أثبت محدوديته، واستعادة التوازن باتت تتطلب مسارًا سياسيًا واقعيًا ومظلة إقليمية قادرة على ضبط الإيقاع، ومصر تمثل في هذا السياق خيارًا عقلانيًا بحكم الخبرة والثقل والقدرة على التواصل مع أطراف دولية مؤثرة.
ولا تنفصل هذه التحركات عن مشهد إقليمي أوسع، حيث تتصاعد أهمية البحر الأحمر كمسرح تنافس دولي، ويعاني فيه القرن الإفريقي هشاشة متزايدة، وتحاول خلاله قوى إقليمية التمدد داخل الفراغات، بينما تعيد القوى الدولية توزيع نفوذها بأدوات ناعمة وخشنة معًا، وفي قلب هذا المشهد تصبح القاهرة والخرطوم نقطة ارتكاز حاسمة، ليس فقط لضبط الإيقاع الأمني، بل للحفاظ على توازن استراتيجي يمنع انفجار المنطقة جنوبًا ويحد من تداعيات التوترات في دارفور على الأمن القومي المصري من خلال ضبط الحدود ومنع انتشار النزاعات المسلحة والفوضى الإنسانية التي تهدد استقرار مصر الداخلي.
إضافة إلى ذلك، تأتي زيارة رئيس الوزراء المصري إلى لبنان في ظل أوضاع مشحونة لتؤكد دور الدبلوماسية المصرية بقيادة الرئيس السيسي في ضبط التوازنات الإقليمية، فالقاهرة تعمل على تهدئة التوترات الداخلية في بيروت، وتعزيز الأمن والاستقرار في الجوار المباشر، وهو ما يعكس قدرة مصر على التحرك بكفاءة دبلوماسية في ملفات دقيقة، بعيدًا عن الاستعراض الإعلامي، لضمان استقرار المحيط الإقليمي الذي يمس مصالحها الحيوية.
ما جرى في القاهرة اليوم ليس حدثًا عابرًا، بل حلقة في سلسلة تحركات تُدار بعقل بارد، حيث تُكتب التحالفات بخطوط غير مرئية، وتُقاس الكلمات بميزان الذهب، في مرحلة لا مكان فيها للصوت العالي ولا مجال للمغامرة ولا وقت للأوهام الأيديولوجية، بل زمن التوازن الحذر، حيث تصبح كل زيارة سياسية علامة على مسار جديد، وكل لقاء هادئ مؤشرًا على إعادة رسم خرائط النفوذ خطوة خطوة، وإذا كان الشرق الأوسط قد دفع ثمن الفوضى، فإن بعض دوله، وعلى رأسها مصر، تحاول اليوم هندسة الاستقرار دون صخب ودون استعجال.
محمد سعد عبد اللطيف - كاتب وباحث في الجيوسياسية والصراعات الدولية
اقرأ أيضاً
مصر.. حين تتكلم الحجارة ويُبعث التاريخ من جديدنيويورك بعد فوز ممداني.. صعود جيل المهاجرين وتبدل المزاج الأمريكي
















0 تعليق