نعرض لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى المقال الاتي:
ما هي السلطة التشريعية؟ ولماذا تحوّلت إلى هدف للهجوم على السوشيال ميديا؟ - وضوح نيوز, اليوم الأحد 21 ديسمبر 2025 04:05 مساءً
في السنوات الأخيرة، لم تعد مواقع التواصل الاجتماعي مجرد مساحة للتعبير، بل تحولت إلى ساحة لإعادة تعريف المفاهيم السياسية، أحيانًا دون معرفة، وأحيانًا دون مسؤولية.
ومن بين أكثر الظواهر لفتًا للانتباه، تصاعد دعوات تشكك في جدوى البرلمان، بل وتطالب بحله، بزعم أنه "لا يقدّم شيئًا"، أو أن الدولة يمكن أن تُدار بدونه، مستشهدين بتجارب دول أخرى.
هذه الدعوات لا يمكن التعامل معها بوصفها مجرد آراء عابرة، لأنها تعكس مستوى خطيرًا من الارتباك في الوعي السياسي، وتسهم في ترسيخ أفكار تهدد توازن الدولة نفسها، حتى وإن رُفعت تحت شعارات إصلاحية.
المشكلة الحقيقية ليست في النقد، فالنقد حق، بل ضرورة، إنما في الخلط بين فشل الممارسة وفساد الفكرة. فعندما يرى المواطن أداءً برلمانيًا ضعيفًا أو غير مُرضٍ، تتحول خيبة الأمل سريعًا عبر السوشيال ميديا إلى تعميم خطير بأن "البرلمان مش مهم"، و"وجوده زي عدمه، ونلغيه ونخلص". وهنا تتدخل خوارزميات المنصات، فتضخّم الخطاب الغاضب، وتكافئ العبارات الصادمة، بينما تغيب التحليلات الهادئة، لتتشكل قناعة زائفة بأن المشكلة في المؤسسة نفسها، لا في كيفية إدارتها أو اختيار أعضائها.
أولًا: ما هي السلطة التشريعية؟
السلطة التشريعية هي المؤسسة الدستورية المسؤولة عن سن القوانين التي تنظم علاقة المواطن بالدولة، وضبط حركة السلطة التنفيذية عبر أدوات رقابية محددة، وهي في جوهرها ليست مجلسًا للنقاش فقط، بل آلية لضبط القوة داخل الدولة، وتشمل مهامها إصدار التشريعات، تعديل القوانين وفق المتغيرات، مناقشة السياسات العامة، مراقبة أداء الحكومة، إقرار الموازنة، وتمثيل المصالح الاجتماعية المختلفة، وبذلك تصبح السلطة التشريعية صوت المجتمع داخل الدولة، لا صوت الدولة داخل المجتمع.
ثانيًا: لماذا وجود البرلمان ضرورة وليس اختيارًا؟
الدولة الحديثة لا تُدار بالنوايا الحسنة، بل بالمؤسسات، وغياب السلطة التشريعية يعني انفراد جهة واحدة بالقرار، غياب النقاش العام حول السياسات، ضعف المحاسبة، تآكل الشرعية بمرور الوقت، حتى أقوى القيادات وأكثرها وطنية تحتاج إلى مؤسسة تراجع، تناقش، وتصحح المسار، فالبرلمان لا يُنشأ لعرقلة الدولة، بل لحمايتها من أخطائها.
ثالثًا: ماذا يحدث حين يغيب البرلمان؟
التجارب السياسية تُظهر أن غياب السلطة التشريعية يؤدي إلى تضخم دور السلطة التنفيذية دون رقابة، تشريعات تصدر بقرارات فردية، ضعف ثقة المواطن في العملية السياسية، انسداد قنوات التعبير المؤسسي، وانتقال الغضب من المؤسسات إلى الشارع أو السوشيال ميديا، وهنا تتحول الفوضى الرقمية إلى بديل زائف عن العمل السياسي المنظم.
رابعًا: هل فعلًا توجد دول يمكن أن تعمل دون برلمان؟
من أكثر الأمثلة التي يُساء استخدامها على مواقع التواصل الاجتماعي، الحديث عن دول لا تمتلك برلمانًا، وكأن ذلك دليل على إمكانية الاستغناء عن السلطة التشريعية، غير أن الواقع السياسي يكشف عكس ذلك تمامًا، وتُعد ليبيا نموذجًا على خطورة غياب أو تفكك السلطة التشريعية، فمنذ سقوط الدولة المركزية في ليبيا عام 2011، لم تستطع البلاد ترسيخ سلطة تشريعية موحدة ومستقرة.
تعددت المجالس، وتنازعت الشرعيات، وغياب الإطار التشريعي الجامع فتح الباب أمام صراع على الشرعية بين أكثر من كيان، تضارب القوانين والقرارات، تدخلات خارجية بحجة دعم "الشرعية"، تمدد السلاح على حساب السياسة، وتعطّل بناء مؤسسات الدولة.
في الحالة الليبية، لم يكن غياب البرلمان تفصيلًا ثانويًا، بل كان أحد الأسباب الرئيسية لاستمرار النزاع، لأن الخلاف لم يكن فقط على السلطة التنفيذية، بل على من يملك حق التشريع ومن يمثل الشعب.
خامسًا: مقارنة ضرورية: دول حافظت على برلمانها رغم الأزمات، ودول فقدته فدخلت الفوضى.
على عكس النموذج الليبي، توجد دول واجهت أزمات سياسية واقتصادية وأمنية معقدة، لكنها حافظت على وجود سلطة تشريعية مستقرة، فنجحت ولو جزئيًا في احتواء أزماتها داخل الإطار السياسي بدلًا من الانزلاق إلى الفوضى.
في تونس، ورغم الاضطرابات السياسية الحادة بعد عام 2011، ظل البرلمان لفترات طويلة ساحة للصراع السياسي المنظم، تُدار فيها الخلافات عبر النقاش والتشريع، لا عبر السلاح، وفي لبنان، ورغم الانقسامات الطائفية والأزمات الاقتصادية الخانقة، استمر البرلمان كإطار دستوري جامع، تُدار من خلاله التوازنات الدقيقة بين القوى المختلفة.
حتى في دول تعرضت لهزات عنيفة مثل العراق بعد 2003، ظل البرلمان عنصرًا أساسيًا في إعادة بناء العملية السياسية، وساهم – رغم كل العيوب – في تنظيم الخلاف داخل قنوات سياسية بدلًا من تركه للشارع أو السلاح وحدهما.
في المقابل، تكشف تجارب مثل ليبيا واليمن أن أول ما ينهار في لحظات التفكك هو السلطة التشريعية، ومع انهيارها، تتعدد مراكز الشرعية، يختلط القانون بالقوة، يصبح السلاح بديلًا عن التشريع، ويتحول الخلاف السياسي إلى صراع وجودي.
وهنا يتضح الفارق الجوهري، الدول لا تستقر لأنها "ألغت البرلمان، بل تستقر لأنها امتلكت مؤسسة قادرة على إدارة الخلاف مهما كان حادًا.
لذلك فإن الدعوة إلى إلغاء البرلمان أو التقليل من دوره لا تعكس وعيًا سياسيًا، بل تكشف عن خلل في فهم معنى الدولة ومؤسساتها، فالسلطة التشريعية ليست عبئًا، بل ضرورة لحماية الدولة من الانفراد بالقرار، وضمان وجود مساحة للمحاسبة والتوازن.
والسؤال الحقيقي الذي يجب أن يُطرح ليس "هل نحتاج إلى برلمان؟"، بل: كيف نعيد الاعتبار للبرلمان كمساحة حقيقية للنقاش والمساءلة والتمثيل؟، لأن الدول لا تسقط حين تُنتقد مؤسساتها، بل تسقط حين يُهدم وعي الناس بأهميتها








0 تعليق