نعرض لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى المقال الاتي:
عشريّة الثورة والشّتات: إسطنبول في الزمن السوري - وضوح نيوز, اليوم الاثنين 22 ديسمبر 2025 10:05 صباحاً
إسطنبول، مدينة العتبات التاريخية، بين الشرق والغرب، الإسلام والعلمانية، التقليد والحداثة، وجدت على مدى العشرية الفائتة في اللاجئين السوريين إليها مرآةً لذاتها المنقسمة. ربما حان الوقت، بعدما صارت التجربة من الماضي، أن تُباح وتروى بأشكالٍ مختلفةٍ. وهذا ما يفعله جون فرانسوا بيروس، المدير السابق للمعهد الفرنسي للدراسات الأناضولية، في كتابه الجديد ''إسطنبول في الزمن السوري (2012-2024)، الذي يمثل حصيلة أكثر من عشر سنوات من البحث الميداني والتحقيق المعمق حول واحدة من أبرز ظواهر الهجرة التي ميزت مطلع القرن الحادي والعشرين.
على المستوى المنهجي يدمج العمل ثلاثة محاور تحليلية رئيسية هي: الجغرافيا الحضرية، وجغرافيا الهجرة، والشهادات الشخصية، في سبيل تقديم صورة حية ومتحركة لهذه التجمعات السكانية. يشدد المؤلف على ضرورة الابتعاد عن "الرؤى الاختزالية والتعميمية"، وينتقد بشدة الخطاب الذي يخلط بين السوريين والمهاجرين غير الشرعيين أو الإرهابيين، أو الخطاب الذي يصورهم ضحايا حصراً. كما يرفض المقاربات الثقافوية التي تعطي أهمية حاسمة للهويات العرقية أو الدينية، داعياً إلى الخروج من التصنيفات المتكررة التي تحصر السوريين ضمن فئة "اللاجئين" المتجانسة والسلبية التي تفتقر إلى نسبية التحليل أو تاريخية المقاربة.
يتبنى الكتاب موقفاً تطبيقياً قاطعاً ومبنياً على الحقائق، يهدف إلى أن يكون "ترياقاً" للحقائق الزائفة والأكاذيب المتعددة التي تعرقل النقاش العام حول القضية، مشدداً على أهمية التركيز على التفاصيل الزمنية، والاجتماعية، والجغرافية. ويرى أن الوجود السوري في إسطنبول يكشف عن تعقيد خروج السوريين ومصائرهم، وفي الوقت ذاته، يُظهر نقاط الضعف والتوتر في المجتمع التركي المعاصر.
غلاف كتاب “إسطنبول في الزمن السوري“.
يعتمد الكتاب هيكلاً زمنياً إجمالياً لمتابعة تحولات الوجود السوري، مقسماً التجربة إلى أربع مراحل رئيسية تتوزع على ستة فصول. الأولى مرحلة الكمون والحضور الأولي بين 2011 و2014، والتي شهدت تحولاً سريعاً في الوجود السوري. قبل الحرب، كان السوريون (طلاب، معارضون، رجال أعمال) يمثلون سادس أكبر مجموعة وطنية تدخل تركيا سنوياً. لكن هذا الوجود أصبح محسوساً في إسطنبول اعتباراً من صيف 2013. كان الاستقرار الأول يتم بعيداً عن أي سياسة عامة، معتمداً على شبكات التضامن العائلي والقروي. كما لعبت الشبكات الأيديولوجية والدينية دوراً رئيسياً في ذلك. وبحلول تشرين الثاني/نوفمبر 2014، وصل العدد الرسمي للسوريين المسجلين في إسطنبول إلى 330 ألفاً، لتصبح إسطنبول المقاطعة التي تضم أكبر عدد من "اللاجئين". أما المرحلة الثانية فتنتهي عند 2016، وخلالها أصبحت إسطنبول "جبهة خلفية نشطة وصندوق صدى" لأحداث الحرب. وبدايةً من 2015، سجلت المدينة انخفاضاً ملحوظاً في عدد السوريين المسجلين بسبب الهجرة الاستثنائية نحو أوروبا. لكن بعد إغلاق الحدود الأوروبية عقب اتفاق تركيا والاتحاد الأوروبي، ارتفع العدد بسرعة مرة أخرى، ليصل إلى 483,190 في نهاية عام 2016.
وخلال المرحلة الثالثة استقرت الأعداد نسبياً، لكن بدأنا نشهد التخفي من خلال العمل غير الرسمي، أو التخفي من خلال الاندماج، حيث حصل عدد كبير من السوريين على الجنسية التركية. ويُعتبر المجنسون والمقيمون نظامياً (الحاصلون على إقامة نظامية) نخبة يتم "إخفاؤها من الأعلى" عبر الإدماج الرسمي والمالي والمهني. وشهدت المرحلة الرابعة بدايةً من صيف 2019، نهاية "القوس السوري" في إسطنبول، بسبب التحول الجذري في السياسة التركية تجاه السوريين في إسطنبول. عندما أعلنت السلطات التركية عن إغلاق إسطنبول أمام تسجيل أي سوريين جدد، فضلاً عن تصاعد خطاب الكراهية، بالتزامن مع التدهور الاقتصادي. وأدت الانتخابات في أيار/مايو 2023 إلى استغلال قضية السوريين استغلالاً عنيفاً من قادة المعارضة. لكن على الرغم من سقوط النظام السوري في كانون الأول/ديسمبر 2024، لم ينته الوجود السوري. ومع ذلك، فقد غادر 2238 سورياً مسجلاً إسطنبول بين 8 و23 كانون الأول 2024 عائدين إلى سوريا.
في الفصول التالية يعالج الكتاب معالجة إحصائية دقيقة مسائل الجغرافيا السورية في إسطنبول والاندماج والتعقيد الاجتماعي والتقسيم الطبقي والمناطقي للسوريين في المدينة، مشدداً على أن الحديث عن "اللاجئين السوريين" كمجموعة غير متمايزة لا معنى له في إسطنبول.
فالتمايزات الاجتماعية والطائفية والجغرافية تحكم مدى "تحمل" المجتمع المضيف لوجودهم. وأحد الآثار الكاشفة للوجود السوري كان إحياء اللغة العربية وإبراز قيمتها لدى جزء كبير من سكان إسطنبول، بخاصة أولئك الذين ينحدرون من المناطق الناطقة بالعربية في تركيا (جنوب البلاد). وقد أدى ذلك إلى تحويل الكفاءة اللغوية العربية من مهارة "خاملة" وشبه "مخجلة" إلى مورد قيّم. وتجدر الإشارة إلى أن تجربة إسطنبول لا يمكن تعميمها على كل أنحاء تركيا، حيث تختلف النسبة الديموغرافية للسوريين باختلاف المدن. وتظهر مدن أخرى، مثل إزمير، توترات أقل تسامحاً، قد تكون مرتبطة بالنظر المحلي السلبي إلى سياسات حكومة حزب العدالة والتنمية.
كما أسهمت "ضخامة إسطنبول" وخبرتها التاريخية الطويلة في استقبال و"استيعاب" اللاجئين (من الروس البيض إلى البلقان والعراقيين) في التخفي التدريجي للسوريين و"تذويب" تجربتهم في المحيط الحضري. وساهمت ضخامة إسطنبول أيضاً في التغييب التدريجي للسوريين، إذ إن الثقل العددي لسكان الحاضرة "يحميها" من أي اختلال في التوازن. يبدو الأمر وكأن أي تدفق هجرة، مهما كانت شدته، محكوم عليه في إسطنبول بالذوبان أو النسبية.
ويرى الكاتب أن وصف وضع السوريين في إسطنبول بـ"الغيتو" هو وصف "سخيف"، لأن قانون السوق الفردي والتجزئة هو الأساس في الخيارات السكنية والاقتصادية للعمل. كما تعمل الضخامة كمحرك لجذب الشباب السوريين (بخاصة النساء)، إذ توفر لهم شروطاً للتحرر الموقت وتجربة التفرد في ظل إخفاء الهوية الحضرية، بعيداً عن ضغط مجموعات الانتماء وسيطرتها.



0 تعليق