عُمر من مَجْد - وضوح نيوز

النشرة (لبنان) 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

نعرض لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى المقال الاتي:
عُمر من مَجْد - وضوح نيوز, اليوم الجمعة 12 ديسمبر 2025 09:55 صباحاً

ريمي الحويك

 

 

 

في الثالث عشر من كانون الأوّل عام 1965، عام الضوّء والثلج، حيث كانت بيروت عروس الشرق تحوك ثوبها من حرير الحداثة، وتزيّن كتِفَيها بوشاح النهضة الثقافية والإقتصادية، كانت شجرةُ زيتونٍ في كفرشيما تنضُج في رحم أرضٍ زارها المخاض.
وبما للخالق من حكمةٍ وللطّبيعة من ميزانٍ، ولأنّ كلّ من له يُعطى فيزداد ، أتتِ الثّمار كالذّهب ولون الشمس، حاملةً أصفى ما جادت به سنابلها. في الثالث عشر من كانون الأوّل ، وُلِد صوتٌ يُشبه الزّمن بموسمه، "يتساقطُ زخّاتٍ" حيناً ويصدح كعاصفة رعديّة "ليلاً قاسياً وحزيناً" حيناً آخر...
صوت الماجدة.

331400Image1_094427.jpg

يأتي عيد الماجدة أحدَ عشرَ يوماً قُبيل عيد الميلاد المجيد .
أحدَ عشرَ هو عدد الظُّهورات التي تجلّى فيها المسيح لتلامذته بعد قيامته، وكأنّ السماء شاءت أن تُضيءَ الأرض بظهورٍ جديد، فأهدتنا صوتاً يحمل في إبتسامته فجر الميلاد وفي نبرته صدى القيامة.
نصيبُها من اسمها قدَرٌ من النقاء، يفيض في كلّ حضور لها، في سُكونها المَهيب على المسرح، في صفاء عينيها، وحين تنحني على الخشبة لا تُشبه الأرزة فحسب، بل تُصبِحُها، عريقةً، شامخةً، أبِيّة.
صوتُها كالمد والجزر، يتحايل عل عواطفنا، يتقدّم ثمّ ينسحب، يملأ المكان ثمّ يُفرغه، يَحبِس أنفاسنا .
هكذا تتسلّق حنجرَتُها بين الطبقات ، فترفَعُنا الى السّماء ثمّ تُعيدُنا برفقٍ الى أرض الواقع.
صوتُها كبُرجِها الفلكيّ، قَوسٌ يشُدُّ الأوتار قبل أن يُطلِق سهام الصوت، قوسُ قُزَحٍ يولد حين تلتقي دموع المطر ضحكة الشمس، قوسُ نصرٍ يَعلو في ميدان الفنّ، وقَوسُ نخيلٍ يمدُّ فروعه تسبيحاً نحو السّماء.
صوتُها، طائرُ عندليب هازج يُغرّد فوق سطوحنا ويستوطن باطن قراميدنا.
صوتُها دستور الفنّ وفي حوزتها خَتْمُ شرعيّته، معها طُويَ الظّرف ودُمغ بالشمع الأحمر .
صوتُها غَيم يُحبّ الأرض، يعانقُها، ثمّ يبكي عليها مطراً .
خمسونَ عاماً ونَيّف، والتاجُ على رأسها يلمع بعطائها، والعمر يَزخَر بإنجازاتها .
وقفت على المسارح كما يقف قدّيس على مذبح من ضوء، وكما يتلو الكاهن الإنجيل في الذبيحة الإلهية. ومثلما قَلَبَ المسيح موائدَ التُّجار، قَلَبَ صوت الماجدة مسار الفنّ، ليُعيد إليه طُهر الهيكل ورهبة الجمال.
استيقظتُ هذا الصباح مُبتسمةً للحياة، مُدركة أنّ النّعم لا تزول، بل نَغفُل عنها أحياناً حين ييثْقُلُنا التعب.
إستيقظتُ مُحتفلةً بامرأة تشبِه وجهَ أمّي، تحمِل دقّات قلبي، وتسكن تاريخ وطني.
اليوم ، تصومُ روحي عن كلّ الأصوات، وأرتشفُ من أغانيها فقط.
اليوم، أتطرَّفُ، وكم هو جميلٌ أن يكون التّطرُّف مسيرةً صافيةً مع أجمل ما منحنا الله، صوتٌ يضيءُ الظلام، صوتٌ يَشفي، صوتٌ يجعل الحياة ممكنة حتى حين تعصِف بنا الرّياح وتتداعى أعمدة العالم.
ماجدة، سامحينا إن قصَّرنا بحقّكِ يوماً ما، إن نسِينا أن نقولَ ونكتبُ لك ما تستحقين من محبّةٍ وإمتنان، اعذُرينا إن نسِينا أنّك لست مجرّد إسم، بل فعل إنساني مُستمرّ .
سأَروي لك حكاية بصماتك الرّاسخة في محطّات حياتنا، في زمنٍ لم تُصبِغ العولمة بعدُ ألوانَه، زمنٍ كانت فيه الأغنية رحلة، لا مجرّد كلمات تُرَدَّد، حين لم تكن أغنياتُكِ شريطاً يدورُ وحسب، بل أفقاً تتراقص فيه قلوبنا.
كنّا ننتظرُ أغانيكِ كما ننتظرُ اللّحظة التي تُفتَح فيها أبواب المدرسة لِلقاء الحبيب بعد عطلة الميلاد.
كنّا نُغمِض أعيننا حين نسمع صوتَكِ كمن يحْرُسُ سِرَّهُ في روحه.
كنّا نختبئ وراء أغنية "كلمات" لنراقص، على الملأ حبيباً سرّيّاً.
كنّا نكتبُ أغانيكِ رسائل حبّ، نُهرّبُها كالأسرار بين مقاعد الدراسة.
كنّا نحفر عناوينَ أغنياتك على مَنْضدَةِ الدراسة، كإرثٍ لمن سيجلس مكاننا في العام الدراسيّ القادم.
كنّا في عيد الأمّ نتسابق من سيُرسِل للوالدة أغنية "كرمالك يا ماما" هدية صوتيّة عبر الجوّال أو إهداء عبر الأثير المباشر؟
وحين حضرتُ حفلتَكِ لأول مرّة، جلَستُ في الصف العاشروتربَّع قلبي في الصف الأوّل. لم يكن في العالم سوى صوتكِ، لا مواقع وتطبيقات تُشتّت انتباهنا، لا عدسات تَبتُر دهشتنا، ولا إشعارات تُقاطِع بهجتنا.
أنصَتَ الجميع كما لو اننا دخلنا خريطة الملكوت ساعتين كاملتين، وعُدنا بعدها الى ديارنا، حاملين في قلوبنا السلام هدية تذكاريّة .
أنتِ حاضرة في مفاصل حياتنا كلّها،
في"العصفورة" حين نعود الى حقول الطفولة،
وفي "كلمات" حين نذوب في الهوى،
وفي "قوم تحدّى" حين نثور على الظلم ونخلع ثوب الخوف،
وفي "بيوم عرسك" حين يتكلّل الحب ويصبح البيت وطناً صغيراً،
وفي "اعتزلت الغرام" حين ننكسر لنكتشف قوة الذّات،
وفي "دقّ بوابن" حين نضيء شموع الميلاد،
وفي "رفقا، ونعمة الله" حين ينتفض إيماننا،
وفي "مع الجريدة" حين يُبعثرنا اللقاء،
وفي "هالأرز مين طالو" حين نغمر تاريخنا،
وفي "سيدي الرئيس" حين نطلق صرخة المقهور،
وفي "يا ست الدُنيا يا بيروت" حين يضيق صدرنا عن استيعاب حب عاصمتنا.
منذ أسبوعين فقط ، حضرتي كمعمودية ثانية في حياتنا، يوم أثنى قداسة الحبرالأعظم وبارك ترتيلة "يا غافي" خلال زيارته الرسولية الى لبنان، حين طمأننا الى أن الكنيسة لن تغفو على أوجاعنا، بل ستحتضننا بمحبّة المسيح، ليبقى مجد لبنان متجلّياً، أكبر من جغرافيّته وأوسع من ديموغرافيّته، حيّاً في وسع الزمان والمكان. في تلك اللحظة، هوت العالمية وجوائزها وسقطت كلّ المقاييس الأرضيّة التي تُعطى وتُمنَح، أمام جملة واحدة نطق بها رأس الكنيسة، كلمة رفعت الترتيلة فوق كلّ تصنيف أو تقييم، وجعلت من صوتكِ أيقونة تُضاء ولا تُقاس.
وحين كتبتِ "افتحي قلبك، اقبلني هيك، قسينا، كيف، ما رح إزعل عا شي"، لم تكن كلماتك مجرّد حروف، بل كانت لنا دروساً، كانت كُرّاسَةَ قِيَم وجسراً يٌرمّم القلب.
بإسمكِ الحقيقي تارةً، والوهمي تارةً أخرى، الصادق دوماً، كنتِ لنا قدوة في مواجهة الخيبات والإنكسارات، بصدقٍ لا يُهادن، وبعنفوانٍ لا ينكسر.
سيّدتي، أنتِ حاضرةٌ في رغيفنا والماء، في سلامنا والسّماء، في أرضنا والهواء، في صلاتنا والرّجاء .
نَسمَعُكِ، فيأسِرُنا الشجن، وتجرٍفُنا الحماسة، وحين نحاول مجاراة صوتك، نغرق في بحره. بصوتنا الوضيع، نُغنّي معك، نُغنّي فتتشنّج عضلات الحنجرة، وتتشابك الحِبال الصّوتيّة، ويُعتقَل الصّوت في الحّلْق... ورغم ذلك، نُغنّي... نُغنّي لأنّنا نريد أن نشعُر أن بينك وبيننا خُبزاً وملحاً وسقفاً.
نَسمَعُكِ، فنشعُر أنّ كلّ أحلامنا وأمانينا قد تحقّقت دُفعة واحدة .
نَسمعُكِ، فنشعُر أنّ الجنّة تُجرِّب موسيقاها الأولى في حنجرتكِ قبل العرض الأبديّ.
دُمتِ لحناً لا يُمحى وملاذاً لا يُستبدَل.
دُمتِ نغمةً لا تشيخ وُعمراً لا يُنسى.
دُمتِ وعداً بالشمس في زمنٍ طال فيه اللّيل .
سلامٌ لصوتكِ، سلامٌ لقلبكِ، سلامٌ لإسمكِ.
كُلُّ عامٍ وأنت بصحّةٍ وسلامٍ وراحةُ بالٍ.
كُلُّ عامٍ وأنت ماجدتنا، سَنا قلوبنا. آمين .
قد أكون كتبتُ الكثير، لكنّي أشعرُ أنيّ ما كتبتُ سوى اليسير، فكُلُّ ما سطَّرتُهُ لا يعدو أن يكون قطرةً في بحر أغنيةٍ واحدةٍ لك. كلّما ظننتُ أنّي بلّغتُ جوهركِ، اكتشفُ أنيّ ما زلت عند الباب. كلّما ظننتُ أنّي لامستُ أطراف حضورِكِ، تبتعدين كنسمةٍ من ضوء. كلما شعرتُ أنّي اقتربتُ، أزدادُ بُعداً.
ولأنَّ أمثالكِ لا يُخْتَتَمُ فيهِنّ الكلام، ولأنّ لا الكلمات تَسَعُكِ، ولا الحروف تُفيكِ، أتركُ النهايةَ بلا نهاية...