نعرض لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى المقال الاتي:
جبران مات من أجل لبنان! - وضوح نيوز, اليوم الجمعة 12 ديسمبر 2025 04:25 مساءً
رغيد الشماع
في اليوم الذي لن يرغب فيه أحد بعد ذلك في الموت من أجل لبنان، يكون لبنان قد مات فعلاً.
رغيد، انهض… انهض… لقد قتلوا رفيقك غابي. بهذه الكلمات أيقظتني زوجتي في ذلك الصباح القارس من جنيف، يوم الاثنين الواقع فيه 12 كانون الأول/ديسمبر 2005، في يوم كان يفترض أن نحتفل فيه بالذكرى السابعة عشرة لزواجنا الذي عُقد في كاليفورنيا في 12/12/1988.غابي هو جبران، جبران تويني، رفيق طفولتي في أيام الروضة، ورفيق صفي في المرحلة الابتدائية أيضاً، قبل انتقاله إلى القسم الفرنسي في المدرسة الدولية IC في المْشْرَف، قبل أن ألتقيه مجدداً عام 1976، بعد سنة واحدة من وصولي إلى فرنسا، في كلية الحقوق – السوربون باريس الثانية (أسّاس). كان غابي الأكثر تديّناً بين رفاقنا في االليسيه الفرنسية – اللبنانية التابعة للبعثة العلمانية الفرنسية.
ما زلت أراه وهو يقبّل صليبه كلما استدعت أحاديثنا شكراً أو التزاماً لا يقبل الجدل. كان الأكثر تقدّماً، والأكثر أصالة، و”الأكثر كول” في تلك الأيام. وبفضله اكتشفنا مطابع صحيفة لوجور، ولاحقاً مطابع النهار في شارع الحمراء. كان غابي حالماً، شارد الذهن دوماً، آخر من يصل إلى الصف لأنه كان ينزل كل صباح من بيت مري. أتذكر في أواخر الستينيات أول كاميرا فورية من نوع بولارويد، والساعة الشهيرة أوميغا سبيدماستر… كان غابي دائماً يسبق زمنه بخطوة. ولم أتعرف إلى الوطني فيه إلا مع اندلاع الحرب. التقينا في حبنا للبنان، ولجيشه. وازددنا قرباً وتمسّكاً ببعضنا في فرنسا، حين جمعتنا الغربة في السوربون، ثم في شغفنا المشترك بالصحافة: هو حامل اسم جده العريق، وابن الإنساني والمفكر الاستثنائي غسان؛ وغابي أصبح جبران، مؤسس النهار العربي والدولي في باريس؛ أما أنا، فكنت صحافياً مبتدئاً بدوام جزئي في مجلة "المستقبل" العربية المرموقة، حيث صيغ مستقبلي في يوم الاثنين 14 أيار/مايو 1979 بزيارة من أصبح لاحقاً مرشدي، صاحب السمو الملكي الأمير سلمان، أمير منطقة الرياض آنذاك، مولاي الوالد وخادم الحرمين الشريفين، ملك المملكة العربية السعودية اليوم.
كنّا سياديّين قبل زمن السيادة، وكان يُنظر إلينا على أننا “فاشيون” من قبل “التقدميين” اللبنانيين الذين كانوا يملؤون الوسط الصحافي، لأن دعم الجيش وسيادة الدولة اللبنانية كان مستهجناً لدى النخبة الثقافية. كان تصنيفنا “فاشيين إمبرياليين” هو النسخة الأولى لما نعيشه اليوم من تصنيف “صهاينة”، فقط لأن حبّنا للبنان ورغبتنا في أن يعود دولة قانون ذات حدود محترمة كان يزعج البعض. شهدت المأساة التي ضربت عائلة غابي عام 1983 مع رحيل والدته الاستثنائية: رقيقة، أنيقة، لامعة، مميزة… ناديا، التي عرفتها في بيت مري في منزلها الذي كان مرآة لذوقها الرفيع في كل ما هو استثنائي. ثم في عام 1987، مع وفاة شقيقه الأصغر مكرم في حادث. كانت شقيقته الكبرى نائلة قد رحلت وهي صغيرة جداً.
وكانت حكاية هذه التراجيديا الرومانية التي عصفت بعائلة غسان تويني، والد غابي، مثقلة بالحزن منذ زمن. وكان غابي صديقاً للكويت، وفي الطائرة التي كانت تقله برفقة الكاتب سمير عطاالله، التقيْناه أنا وزوجتي عام 1989. ولاحقاً، في أوائل الألفية، وبينما كنت أتجول في شوارع بيروت، لمحته من خلال الواجهة الزجاجية لمطعم “جورج” في الجميزة، يتناول الغداء مع سهام، زوجته وأم ابنتيه التوأم، ذلك الزواج الثاني الذي لم يكسره إلا القدر في 12 كانون الأول/ديسمبر 2005. بأناقة مطلقة، نهض، وخرج من المطعم ليحدد لي موعداً بعد الغداء، ويصرّ على أن ننهي الجولة معاً لدى سيادة المطران إلياس عودة، متروبوليت الروم الأرثوذكس على أبرشيّة بيروت، لتقديم معايدة عيد الفصح. هكذا كان غابي: عفوياً، كريماً، نقياً.
أعترف بأن ردّة فعلي في ذلك الصباح من 12 كانون الأول/ديسمبر 2005 كانت غريبة، غريبة جداً. وحيداً في سريري، كنت أردد بلا توقف: “كنت أعلم”… “كنت أعلم”… “كنت أعلم”.. ولغرابة القدر، وخلال السنوات الست الماضية، عندما كنت أُستضاف مباشرة على الهواء، مندفعاً بغريزتي للدفاع عن القيم التي هي قيمي — قيم لبنان السيد، العزيز، الحر، المستقل — في مواجهة خصوم سياسيين قادوا البلاد إلى ما هي عليه، كان يحدث كثيراً أن أتذكر جبران والمصير الذي لقيه نتيجة نزاهته وصدقه، مما جعل خطاباتنا نحن تبدو “انتحارية”، لأنها “قاتلة”. إلا أن الوطنية هي أن تموت من أجل لبنان كي لا يموت لبنان. يسقط لبنان عندما ينسى اللبنانيون أنهم لبنانيون قبل أي شيء آخر. شِمِّيْع* جبران كان يطلق عليّ دائماً تحريفاً ساخراً لاسم عائلتي: شِمِّيْع.