نعرض لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى المقال الاتي:
التجديد الممنوع في بلد الطوائف ! - وضوح نيوز, اليوم الثلاثاء 16 ديسمبر 2025 10:55 صباحاً
محمد عبد الله فضل الله
لا يمكن العكوف على تناول مسألة تجديد الفكر الدينيّ في مساحتيه الإسلامية والمسيحية على السواء، والتي تتكرر على الألسنة بمناسبة وبغير مناسبة، انطلاقاً وحصراً من النغمة المعروفة من ضرورة انفتاح الفكر الدينيّ على العلوم الإنسانيّة ومناهجها، من النقد التاريخيّ والعلوم الاجتماعيّة والأنثروبولوجيا والاستعانة بأنماط غير تقليديّة من اللاهوت،كلاهوت التحرير بما أنّها تنطلق من الواقع وتستلهمه، وذلك سعياً إلى لغة جديدة وفكر دينيّ ينأى عن التقليد والاجترار على الرغم من أهمية ما تقدم.
فالواقع يشي بأن القضية هي بمسيس الحاجة إلى التصالح مع النصوص التي تحملها الجماعات الدينية نفسها، والتي لم تعطف حتى الآن ببراعة على التعرف بعمق على مفردات النص ومدلولاته في امتداداتها المعرفية والاجتماعية الأصيلة الملتصقة بروح الدين في خطوطه العامة المتصلة بالفرد والجماعة وفي تناغمهما مع لغة الله المفتوحة على الزمن والأحداث، والسبب هو فقدان الشخصية المتصالحة التي تحمل مؤهلات التجديد، وتترفع عن المقيدات، وتتحلى بالتحرر الداخلي المطلوب في ضبط مشاعرها، وتنظيم فكرها، وتسوية ما تحمل من موروثات، وحسن توجيهها والإفادة منها.
ليست المهمة في الإصلاح سهلة ميسرة بل محفوفة بالمخاطر والعقبات، لكونك تواجه جبلاً من التعقيدات النفسية والعصبية، ولكون الخلاف مع الآخر ولّد خوفاً عاماً ألغى كل إمكانية لهذا التحرر الداخلي، والانفتاح الجدي على النص، والانطلاق نحو فهم ما لدى الآخر، ومدّ جسور التواصل معه، بعيداً عن الخلفيات الضيقة التي تكبّل النص والناس، وتحارب كل محاولة للتجديد والإصلاح باسم الدين ذاته، وتكفّر أصحابها؛ فما لم يكن هذا النص يتنفس الحرية ويكون نافعاً للحياة فلن يزيدنا إلا اغتراباً حتى عن اعتقادنا. ويشير المرجع الراحل السيد محمد حسين فضل الله إلى كل ذلك عندما قال:
" أتصوّر أنّ القضيّة هي إصلاحُ الفكر الدينيّ وإصلاح الاجتهاد الدينيّ. وهذه من العمليّات المعقّدة الصعبة، التي قد تثير الفتنةَ عندما تنْقض خطّاً متخلّفاً في الفهم الدينيّ هنا، أو خطّاً منحرفاً في الفتوى هناك، وهو ما لاحظناه في استغلال الآخرين للهوامش المذهبيّة الخلافية التي تدور بين المسلمين أنفسِهم.

الإصلاحُ الدينيّ في فهمنا، هو أن نؤصِّلَ الفهمَ الدينيّ من خلال التعمّق في النصّ الدينيّ، وفي امتداداته،حتى يكون نصاً للحياة كلّها، لا أن نحبسَه في زنزانةٍ ضيّقةٍ من خلفيّاتنا الضيّقة، التي قد تكون ممّا نعيش معه في الماضي، أو نسقط بسببه في وحول الواقع...".
ليست الطوائف سوى بوابة عبور إلى تنفيذ مصالح من يمثلها، ويبقى اتباعها خدماً ما داموا يدورون في فلكها بلا افتهام لما يجري من حولهم؛ فالنموذج الطائفي اللبناني عبّر ويعبّر بشكل صارخ عن عمق الأزمة الشخصية في إدارتها لشؤون التنوّع الديني في علاقته الجدلية مع السياسة اللبنانية الضيقة في تقاطعاتها الداخلية والخارجية، فإذا ما أحسّت طائفة بالخوف على مصالحها تراها تفتعل الأزمات، وتعلي من زعيقها بأنها مستهدفة وفي خطر وجودي.
ولكن أين الانتماء إلى المواطنة والوطن في كلّ هذه المعمعة، وفي كلّ هذا التعقيد في الانتماء الديني والطائفي، الذي يعيش على خطاب سياسي مأزوم، وفي ظلّ إدارة توزيع مصالح الطوائف وتنظيمها عبر شكلية الدولة، ولو كان ذلك على حساب الكفاءة والمعايير السليمة؟
لعلّ البعد الغيبي المترافق مع أيّ دين، حتى لو كان عند الشعوب البدائية، هو من أكبر التحديات التي تعيق تقدم الفرد والجماعة على مستوى الفهم الديني والنصي، وتالياً التقدم في اجتراح المعطى السياسي الحضاري المطلوب في رفضه لكلّ مقيدات تحدّ من الوعي العام في بحثه عن كلّ معنى وقيمة ترفع من شأنه في حاضره ومستقبله.
ولعلّ من أبرز التحديات في علاقة الديني بالسياسي في منطقتنا هو عدم الفهم الواضح للسياسة ودقتها وغاياتها، وحصرها عملياً في مدى تأديتها للخدمات لهذه الطائفة أو تلك، حتى أفرغت السياسة من مضامينها، وتحولت إلى أداة طائفية أنهكت الأوطان والمجتمعات.
نعم، وكأننا في زمن العصور الوسطى، نحيا في إطار الذوبان بين السياسي والديني، بلا ضوابط وحدود مرسومة؛ وهو ما دفع إلى الخلط واللغط معاً، وإلى ممارسات جماعية وطائفية تعدّ العدة عند كل مفصل وحدث إلى إثارة المشكلات والتعقيدات، إذ غاب الدور الجماعي الذي يسائل ويلاحظ ويحاسب هنا وهناك، فانتعشت الفوضى في كل ذلك.
من هنا، فتجديد الفكر الديني لا يمكن له أن يكون كاملاً ومتوازناً في بيئة سياسية وطائفية معقّدة، يتربّى فيها الفرد كما الجماعة على الحسّ الطائفي، ويعيش على سطح فهم موروثه، من دون التعمق في امتداداته الإيجابية، إن وجدت؛ فالدين ليس إلا قوة دفع وتحفير لمكامن القوة في الفكرة والتطبيق والفهم لضبط إيقاعات الحياة المختلفة ورفدها بما تحتاج من أدوات تساعدها على الثبات، لا خنق هذه الحياة بأفهام منغلقة وقاصرة أو عاجزة أو مستغرقة في الغيب؛ فالحياة تحتاج إلى إحياء في الفهم والوعي ولا تحتاج إلى غيب يسحقها ويمنع عنها الهواء ويحرمها من النقد اللامحدود والسؤال المعرفي البنّاء.
باعتقادي أنه لا مناص من دون مغامرة الحرية، التي هي هبة الله للفرد كما للجماعة، إذا ما أراد الانتقال من السجن المذهبي والطائفي والحزبي الضيق إلى الفضاء الحر، حيث يمكن عندها التفكير في تجديد ديني وسياسي جدّي وبناء دولة حقيقية...