نعرض لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى المقال الاتي:
الكلمة… قدرٌ يتشكّل في أفواهنا - وضوح نيوز, اليوم الثلاثاء 16 ديسمبر 2025 11:45 صباحاً
ناهيا أبو ابراهيم - خبيرة علاقات زوجية وتنمية ذاتية
في عالمٍ يموج بالتغيّر وتتسارع فيه الإيقاعات كما لو أنّ الزمن نفسه يجري لاهثاً خلف أحلام البشر، تبقى الكلمة هي الثابت الوحيد الذي لا يتغيّر أثره. تبدو بسيطة في ظاهرها، لكنّها في حقيقتها قوة خفيّة تصنع العالم من جديد كلما نُطقت. ليس غريباً أن يقول الإمام علي كرّم الله وجهه: "أقداركم في أفواهكم"، فالكلمة ليست حدثاً صوتياً عابراً؛ إنّها بذرة قدر، ونقطة تحوّل، وجسرٌ بين عالمين: عالم الداخل وعالم الواقع.
حين نتأمل هذا المعنى في التاريخ الروحي للأمة، يطلّ علينا مشهد الإمام الحسين رضي الله عنه، وهو يقف في لحظة فاصلة بين موت الجسد وحياة المبدأ، فيصرخ بقوله: "كبرت كلمة! وهل البيعة إلا كلمة؟ ما دين المرء سوى كلمة، وما شرف الرجل سوى كلمة…". لم يكن الحسين يدافع عن لفظٍ بسيط، بل كان يدافع عن جوهر الإنسان: عن الصدق حين يلتصق بالضمير، وعن الحرية حين تتجسّد في عبارة، وعن الكرامة حين تصبح الكلمة عنواناً لها. الكلمة هنا ليست رأياً، بل هوية كاملة يختار الإنسان أن يحملها أو يتخلى عنها.
ولأنّ الكلمة امتدادٌ للروح، فهي لا تُقال فقط للناس، بل تُقال – أولًا – للنفس. في عمق علم النفس والبرمجة اللغوية العصبية، يثبت الباحثون أن ما يقوله الإنسان لنفسه يتحوّل تدريجاً إلى قناعة، ثم إلى نمط حياة. فالجملة التي تُقال بلا انتباه تصبح عادة، والعادة تصبح سلوكاً، والسلوك يصنع المصير.
قل لنفسك مراراً: "أنا عاجز"، وستجد العالم يضيق.
وقل لها بثبات: "أنا قادر، أنا أستحق، أنا أستطيع"، وستندهش كيف يتسع الكون؛ كأنّ الأبواب كانت تنتظر كلمة تُقال لتُفتح.
وفي العلاقات الإنسانية، تتجلّى خطورة الكلمة بأعلى صورها. فالعلاقة الزوجية – مهما بلغت قوتها – تقوم على جسر من الكلمات. قد تُصلح كلمة رقيقة ما أفسدته الأيام، وقد تهدم كلمة قاسية ما بنته سنوات المحبة. ليست المشكلة في الخلافات، بل في الكلمات التي تُقال أثناءها؛ فالقلوب لا تنكسر بالصوت، بل بالمعنى.
الكلمة يمكن أن تُشبه نورًا يتسلل إلى روح مُتعبة، أو مثل سهمٍ يُصيب نقطة هشّة في قلبٍ لم يعد يتحمل. قد تُشعل أملاً في نفسٍ كانت على وشك السقوط، وقد تدفع إنساناً إلى حافة اليأس. لذلك قال الحكماء: "من ملك لسانه، ملك قلبه، ومن ملك قلبه، ملك حياته".

إنّ خطورة الكلمة لا تكمن في صوتها، بل في قدرتها على تحريك الواقع. نحن نُنشئ حياتنا عبر ما نقوله:
حين نقول "سأحاول"، فإننا نترك باب التراجع مفتوحاً. وحين نقول "سأفعل"، فإننا نمنح أنفسنا التزاماً أخلاقياً يدفعنا إلى الأمام. وحين نقول للآخر "أنا أقدّرك"، فإننا نعطيه معنى وجودياً لا يُقاس بثمن. وحين نقول "أنت تؤذيني"، فإننا نرسم حدوداً تحمي كرامتنا.
الكلمة ليست لغة فحسب؛ هي موقفٌ من الحياة.
هي إعلانٌ عمّا نؤمن به، وعمّا نخافه، وعمّا نرجوه.
هي دليلٌ على نضجنا الداخلي، وميزانٌ يزن أخلاقنا قبل ألسنتنا.
لهذا، فإنّ الإنسان الراشد لا يتحدث ليملأ الفراغ، بل يتحدث ليبني. ينتقي كلماته كما ينتقي المسافر زاده، لأنّ كل كلمة تخرج منه إمّا أن تكون نوراً يُضاف إلى نور العالم، وإما ظلاماً يثقل قلبه وقلب من حوله.
فلنحمل الكلمة كأمانة لا تُقال جزافاً، وكقيمة تشبهنا وتشبه تاريخنا وكرامتنا. فلنكن من أولئك الذين إذا نطقوا أشرقوا، وإذا صمتوا أراحوا، وإذا قالوا كلمة… كانت تليق بروح الإنسان التي أراد لها الله أن تكون حرّة، واعية، كريمة.
*