نعرض لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى المقال الاتي:
العربية تخاطب روح العصر... الطبق كتاب والنكهة هوية والمذاق لغة حيّة - وضوح نيوز, اليوم الخميس 18 ديسمبر 2025 04:55 صباحاً
نادر سراج*
إذا كانت اللغةُ العربية التي نحتفي بيومها العالمي وطناً، ولغةً أمّاً تتقاربُ الأرحامُ على أساسٍ منها، فإنّ المكتبةَ هي وطنُ المعارف ومنهلُها.
كان الإنسان، وكان العقل. وإذا كان العقل سمةً من سمات الإنسانِ، فإنّ الابتكارَ والتّجديدَ من سماتِه. وكلُّ منتجاتِ الإنسانِ ابتكاراً، وتجديداً، وتوليداً، وتطويراً، وتغييراً، وإبداعاً لا بدَّ من أن تُحْفَظَ، وخيرُ سبيلٍ لحفظها كتابٌ. فهو ضَوْعُ الفكرِ في مِشكاةِ العقلِ، يتجلّى ائتلافَ حبرٍ على ورقٍ، فيُضحي الحبرُ الأسودُ نوراً يَهدي وحافزاً للقراءة.
"اقرأ" أربعةُ حروفٍ تسري في جهازِ النّطقِ عُمقاً في الهمزةِ، ورِفعةً في القاف، ومرونةً في الرّاء. "اقرأ" طلبٌ واجبٌ، وكأنَّ البارِيَ عزَّ وجَلَّ أرادَ تهيئةَ الفكرِ ليكونَ نيراً سامياً يحرّكُ الجوارحَ وتعملُ بَهَدْيهِ. نقرأُ إذاً لنرفدَ حصيلتَنا بمعرفة حيّة ومعلومة نافعة وفكرة مبتكرة.
متى ذُكِرت القراءةُ ذُكِرت الكتابةُ، ومتى ذُكِرت الكتابةُ ذُكرت القراءةُ. لا قراءةَ بلا كتابةٍ، ولا كتابةَ بلا قراءة. القراءةُ فرضُ عينٍ، والكتابةُ ثمرُ الأرضِ، والمكتبةُ بستانٌ أخضر، وضوءٌ ينسابُ في الرّوحِ.
لا حياةَ بلا كتابةٍ، بلا كتابٍ، بلا قارئ. إذًا، لا حياةَ بلا قراءة. وأيًّا تكن وسائطُ الكتابةِ فهي روحُ الحياةِ. الكتابُ الورقيُّ الجميلُ وطنٌ، والكتابُ الإلكترونيُّ الجميلُ وطنٌ.
غوغل والذكاء الاصطناعي ليسا غريمَي المكتبةِ ولا نقيضَيها، هما وساطتان فائقتا السرعة ييسران إدراك المعارفِ. علينا ألّا نخافَ من سطوة غوغل؛ وعلينا في المقابل أن نكتبَ وننشرَ ونبدع بلسان الضاد، على الشابكة، حتّى تكونَ بين أجيالِنا الكتاباتُ الجميلةُ والقراءاتُ المفيدة.
إنّ التّغيّرَ الدّائمَ قانونٌ طبيعيّ، عند "أمّةِ اقرأ" وسائر الأمم؛ لا مشكلةَ إن تغيّرت وسائطُ الكتابة والنشر. قديماً كانت على الجدران، ثمّ على سَعَفِ النّخلِ، ثمّ على الورقِ، ثمّ في الوسائطِ الإلكترونيّة. إنّ تكنولوجيا المعرفةِ جزءٌ من حياتِنا، لو أحسنَّا استثمارَها لجنينا الفوائدَ العظيمة.
لِنعوّدْ أنفسَنا وأولادَنا على القراءةِ وعلى الكتابةِ، سواءٌ كانت الكتبُ ورقيّةً أو إلكترونيّةً. يقولُ الجاحظ:" الكتابُ هو الّذي إذا نظرْتَ فيه أطالَ إمتاعَك، وشَحَذَ طِباعَك، وبسَطَ لسَانَك، وجدَّدَ بَنانَك، وفخَّمَ ألفاظَك، وبَحْبَحَ نَفْسَكَ، وعَمَّرَ صَدْرَك".
نقول: إذا أردتَ أن تُسعِدَ إنساناً فقدّم له كتاباً؛ وإذا أردتَ أن تُسعِدَ مجتمعاً فقدّم له مكتبةً، ويسّر له معرفةً مفيدة يختزنُها كتابٌ أو دوريّةٌ أو وسيطٌ إلكتروني.
يذهبُ الإنسانُ وتبقى كتبُه، ويبقى أثرُه. الكتابُ الجميلُ إحسانٌ، والأثرُ الجميلُ إحسانٌ، وقيمةُ كلِّ امرئ ما يُحسِنُه، ويُحسِنُ إشراكَ القرَّاءِ في جديده ومُفيده. وهذا دأبُنا في نتاجنا المنشور، وفي كتاب "نكهة بيروت موائد وسرديات" الذي نستكملُ فيه "ثلاثيةَ بيروت".
اللغة مرآة العالم
بناءً على ما سبق، فاللغة التي نعتبرها مرآةَ العالم هي خير حافظة للمنجز الإنساني عموماً، ولذاكرة البلدان والمدن، وبيروت منها تحديداً. ومتى تابعنا بالمعاينة والدرس والتحليل أبجديةَ الطعام – بيت القصيد هنا - نرى أن لغة التواصل اليومية تشكّلت على أمداء، مستعينةً بخليط اقتضته احتياجاتُ التواصل اليومية، قوامه العربية ومقترضات وافدة من التركية والفارسية والسريانية وغيرها. وخلال الفترة الانتدابية، تسرّبت أشكال الثقافة الغربية وأنماط عيشها ونظمها اللغوية بالتدريج إلى نسيج لسان الضاد. وحديثاً رأينا الفرنسية والإيطالية والإنكليزية وحتى الإسبانية واليابانية تزاحم العربية في ميادين السياحة الفندقية وفي ثقافة الطعام، في لبنان ودول الجوار العربي.
وتكفي نظرة سريعة على قوائم الطعام المعتمدة في شارعَي بلس ومونو ومناطق الروشة وزيتونة باي والصيفي والجميّزة ومار مخايل وبدارو، والمُعدّ جُلها بلغات حيّة، لإعطاء فكرة عن الهجين اللغوي المُهيمِن، والمتمثل بـعبارة "الحساب maître please".
لا عجبَ فالشعوب لا تحيا وتتطور بمعزلٍ عن الاتصال الثقافي والغذائي بأهل الجوار، ولغاتها لا تتعزز مكانةً وتغتني تراكيبَ ومصطلحاتٍ وطرائقَ تعبير، إلا بتلاقحها مع الشعوب الأخرى، وباتصالها النفعي والمُستدام بثقافاتها المتنوعة وبمخرجات عمرانها.
أبجدية الطعام جوهر الهويّة اللّبنانيّة ومرآة الثقافة العربية
حين تستضيفُ مكتبةُ السبيل "كاتباً ليقدّمَ أحدثَ منجزه العلمي، غير المألوف أكاديمياً، أي "نكهة بيروت موائد وسرديّات"، فإنّها تفسح في المجال لخطاب الهامش، المعني باليومي والمعيوش والنفعي الاستهلاكي، كي يقتعدَ مكانته المعرفية في ميادين البحث العلمي. وتؤكّد في الوقت عينه مُسلّمةً مدارها أن الصناعتين الفندقية والمطبخية هما في بعض وجوههما مرآة الثقافة العربية. وهي تُعلن بذلك انحيازَها لجوهر الهويّة اللّبنانيّة في أبسط مظاهرها وأعمقها معاً: اللغةَ بما هي هوية وكينونة وانتماء، والطّعام بما هو ذاكرة، والمائدة بما هي سرد للوجود.
يخرج القارئ بفكرة رئيسة قوامها أن بيروت في نكهتها ليست "زهرة في غير أوانها"، ولا مدينة على البحر فحسب، بل هي في مطبخها اللبناني الشرقي مدينةُ الأرياف في مواردها. تمتدّ جذورها في تراب القرى، وتصعد أنفاسها من عطر الزّعتر البرّيّ. تحمل في ملامحها لهجة الحقول والكروم، وتخبّئ في أزقّتها عبق الحصاد وطيب الجنى.
هي مدينة تشرب من الينابيع البعيدة وتطهو وفاءً بالذّاكرة. كلّ لقمة فيها حكاية، وكل سفرةٍ مجالسة حميمة وتشاركُ أطباقٍ معرفيّة، وكلّ نكهة جسر مودّة بين جبل وساحل.
بيروت العالم المزدحم بالوجوه واللّغات والنكهات
الكتابة عن نكهة بيروت ليست وصفاً للطّهو ولا احتفاء بالشّهيّ من المآكل، بل هي إثبات وجود هذا العالم المزدحم بالوجوه واللّغات والنكهات. حين نكتب عن طعامنا نكتب عن أنفسنا، عن أرض أنبتتنا كما تُنبتُ الحبّةُ السّنابل، وعن أمّهات رَبّيننا على الملح والزّيت والكرامة. وعن صيحة تعجّبٍ بيروتية أطلقها يومًا الشاعر الشعبي عمر الزعنّي وردّدها أسلافُنا: "مش معقول مش معقول يهِدّ الكوكب صحن الفول!"
في "نكهة بيروت – موائد وسرديّات" تتشابك الصّورة البيانيّة مع الدّقة العلميّة، ويمتزج الوجدان بالفلسفة، ويتواشج المحسوس مع المجرّد، ويتجاوز علم الاجتماع مع الشّعر. فالكتاب لا يُقرأ بالعين وحدها، بل تتذوّقه الحواسّ الخمس (المُبصرات والمشمومات والمتذوّقات والمسموعات والملموسات). ففي الكتاب من رائحة خبز الصّاج ما يوقظ الطّفولة، ومن نكهة البنّ ما يذكّر بالصّبح الجميل بالحركة والبركة، ومن طعم الملوخيّة ما يعيد إلينا أمان المطبخ الأموميّ.
هذا الكتاب يروي بيروت الّتي تفكّر بذائقتها وتتكلّم بلقمتها. بيروت لا تخجل من عجن الفكر بالدّقيق، ومن وضع الحكاية في قدر يغلي فوق نار الذّاكرة. في الكتاب نرى أنّ
الثّقافة ليست في الكتب وحدها، بل أيضاً في الملاعق، في أسواق الخضار، في طناجر الجدّات، في رائحة المطر حين يلمس النّعناع في الشّرفات.
لكلّ مدينة نكهة. ونكهة بيروت نكهةٌ مقاومة: مقاومة للنّسيان، مقاومة للتّماثل، مقاومة للذّوبان في العولمة.
في بيروت، لا نكتب عن الطّعام لنصفه، بل لنرويَ ذاكرتَنا فتقوى وتشتدُّ عوداً. شكراً لبيروت الّتي لا تزال، رغم كلّ ما احترق فيها، تفوح برائحة الخبز والحكاية والكرامة.
الطعام هويةً وطبقاً معرفياً واللغة شريان حياة
على الرغم من أن الهُويةَ تنشطر في العادة، عند الأفراد والجماعات، إلى أبعاد مختلفة، مؤتلفة بقدر ما هي مختلفة، مما يستتبع حكماً تعدداً في الهُويات المكتسبة، إلا أنني أركّز هنا على هُوية مختارة تتمحور حول بيروت ونكهتها. وحيث إن هُويةً بعينها شغلتني في كتاب "نكهة بيروت موائد وسرديات" هي هُوية الطعام، باعتباره طبقاً معرفياً، فاسترفاد الذاكرة لهذا الغرض -في العنوان- لا يجعلها بالضرورة تقتصر على الطعام بما هو حاجة بيولوجية وممارسة يومية فحسب. فالذاكرة هنا تتشكل من جملة التمثلات التي يستثيرها مصطلح الطعام عند المرء، زارعًا ومُتبضّعاً، ومُعدّاً وطابخاً ومُقدِّماً، ومتذوقاً فآكلًا. فهي تتأصل وتتراكم وتتزخّم في الذاكرة الجَمعية، وفق سياقات شتى، وتتخذ أبعاداً متشعبة تستحق التوقف عندها.
النكهة والموائد والسرديات تفكّك جديدَ الكتاب
نوجز بالقول إن الكتاب يغوص على مدى أربعمئة صفحة في كيمياء الذاكرة الغذائية الجَمعية العربية، ويُظهر أن الطعام ينضوي ضمن الشفرات الاجتماعية شأنه شأن اللباس (دانيال تشاندلر). فالأطعمة الوطنية (الكبة والتبولة والأرنبية والمنسف والفلافل، وغيرها) لم تعد في ضوء الدراسات البينيّة وصفات وقوائم مأكولات ومادة للإشباع، بل باتت تمثل في المدارك أبعاداً ثقافية وسيميائية وانثروبولوجية تتآزر في كلّ غذائي ثقافي لتظهّر كينونة المجتمع وهويته وتجليات لغته وبلاغة تراكيبها.
جديده أنه يزخر بصور بيانية وبلاغية طريفة، من ملتقطات الناس في بيروت ولبنان وبيئات بلاد الشام، تنهل من معين أبجدية الطعام، وتسترعي انتباه القارئ باعتبارها تملك من البلاغة ما لا تقوله كتب الطهي أو الدراسات الأكاديمية، ولا تدرّسه المعاهد الفندقية. استُمدّت معطياته "الحقلية" من سرديات شعبية وتراث شفوي شديد الخصوبة، أبدعتها العقول واختزنتها الصدور وتناقلتها الألسن أباً عن جدّ، في المدن (عمر الزعني وعبد اللطيف فاخوري وأحمد أبو سعد وحسن الحَجّة) وفي الأرياف والجبل اللبناني (ميشال فغالي ولحد خاطر وأنيس فريحة)، وفي حواضر عربية وثّقت تراثَها الغذائي ("نكهة فلسطين" لعزيز شهاب مثالًا)، أو غذاءَها الروحي الموسوم بالخصب والتنوّع كما في "معجم ألفاظ الحياة اليومية في الأردن".
وإذا كان يوم 18 كانون أول/ديسمبر مكرَّساً يوماً عالمياً للغة العربية، فقد أحييناه على طريقتنا، وبأداتنا اللسانية المُجوّدة، فقدّمنا للعالم طبقاً معرفياً شهياً، ذا نكهة متفرّدة، يصلح للعقل والجسم في آنٍ، دلالةً على أن لغة الضاد ليست عاجزةً عن ارتياد أيّ حقل من حقول المعرفة الإنسانية.
-المقاربة الواردة لا تعكس بالضرورة رأي مجموعة "النهار" الإعلامية.