الانتهاكات في حرب السودان: ما بعد تقرير CNN - وضوح نيوز

النشرة (لبنان) 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

نعرض لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى المقال الاتي:
الانتهاكات في حرب السودان: ما بعد تقرير CNN - وضوح نيوز, اليوم الجمعة 19 ديسمبر 2025 09:35 صباحاً

كشف تحقيق استقصائي دولي واسع النطاق، أنجزته شبكة "سي إن إن"، بالتعاون مع منصة Lighthouse Reports للتحقيقات الاستقصائية، عن وقائع موثّقة تشير إلى انتهاكات جسيمة للقانون الدولي الإنساني خلال العمليات العسكرية التي نفذها الجيش السوداني، في أثناء استعادته السيطرة على مدينة ود مدني وولاية الجزيرة بوسط السودان، مطلع عام 2025.

استند التحقيق إلى أدلة بصرية، وتحليل جغرافي - زمني، وشهادات مباشرة من داخل السودان، في مادة وصفها خبراء بأنها "ترقى إلى قرائن قانونية على ارتكاب جرائم حرب".

تأتي هذه النتائج في سياق نزاع مسلح غير دولي، اندلع منذ نيسان/أبريل 2023، وخلّف، وفق تقديرات أممية وبحثية، أكثر من 150 ألف قتيل، وشرّد نحو 13 مليون شخص قسرًا، وسط تفاقم حاد لأزمات الغذاء والمجاعة في أقاليم سودانية عدة.

ويُلزم القانون الدولي الإنساني طرفي النزاع - الجيش السوداني وقوات الدعم السريع - احترام مبدأي التمييز بين المدنيين والمقاتلين، والتناسب في استخدام القوة؛ غير أن الوقائع الموثقة في التحقيق تشير إلى إخفاق خطير في التزام هذين المبدأين.

وقدّم التقرير معطيات يصعب معها توصيف ما جرى بوصفه “انتهاكات فردية”، إذ تشير الأدلة إلى نمط ممنهج من الأفعال التي قد تندرج ضمن جرائم حرب، وربما جرائم ضد الإنسانية. وذهب عضو في بعثة الأمم المتحدة المستقلة لتقصي الحقائق إلى وصف هذه الوقائع بأنها قد ترقى إلى إبادة مستهدفة وتطهير عرقي.

وفي ظل غياب تحقيقات وطنية فعّالة، تبرز هذه الملفات بوصفها مادة محتملة للمساءلة الدولية، فيما تبقى حماية المدنيين التزامًا قانونيًا وأخلاقيًا غير قابل للتصرّف.

ليست الفظائع التي رافقت هذا الصراع انحرافات عرضية، إنما هي نتيجة طبيعية لانسداد الأفق السياسي. فعندما تغيب الرؤية، ويتلاشى المشروع الوطني، تتحول الحرب إلى غاية في ذاتها، وتُبرَّر الانتهاكات بوصفها ضرورات ميدانية، بينما هي في حقيقتها أعراض لفراغ القرار وعجز القيادة. هكذا تُستبدل لغة القانون بخطاب التعبئة، وتُعلَّق المسؤولية الأخلاقية باسم “المرحلة”.

الأخطر هو أن استمرار الحرب يعيد إنتاج البنية ذاتها التي فجّرت الأزمة: عسكرة السياسة، وتسييس العنف، وإقصاء المجتمع من معادلة القرار. فلا يمكن الحديث عن استقرار أو سيادة في ظل مدن تُدار بالرصاص، ولا عن وحدة وطنية حين يُنظر إلى المدني بوصفه عبئًا أو ورقة ضغط. فالدولة التي تخسر ثقة مواطنيها تفقد - تلقائيًا -  قدرتها على فرض النظام أو طلب الشرعية.

في هذا السياق، لا تبدو الحلول العسكرية سوى تأجيل للأزمة لا معالجتها. فكل تقدم ميداني بلا أفق سياسي واضح لا يفتح طريق السلام، بل يوسّع دائرة الصراع، ويعمّق الانقسام، ويؤسس لجولات عنف جديدة. ويؤكد التاريخ، القريب والبعيد، أن الحروب الأهلية لا تُحسم بالسلاح، بل تتوقف حين تُستعاد السياسة من أيدي الجنرالات، وتُعاد إلى فضاء التفاوض والمؤسسات.

وقف الحرب في السودان ليس خيارًا أخلاقيًا فحسب، بل ضرورة سياسية عاجلة. هو المدخل الوحيد لوقف الانتهاكات، وإنهاء الأزمة الإنسانية الخانقة، ثم فتح مسار انتقالي يضع السلاح تحت سلطة السياسة، لا العكس، ويعيد بناء الدولة.

فالدول لا تُدار بالمدافع، ولا تُستعاد بالدم، ولا يُكتب مستقبلها إلا حين يعود القرار من ساحات القتال إلى طاولة السياسة.