السودان: نموذج تحوّل التعددية غير المدارة إلى حروب أهلية مستدامة - وضوح نيوز

النشرة (لبنان) 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

نعرض لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى المقال الاتي:
السودان: نموذج تحوّل التعددية غير المدارة إلى حروب أهلية مستدامة - وضوح نيوز, اليوم الجمعة 19 ديسمبر 2025 12:55 مساءً

مريم أبو خضر

 

إن المجتمع المتعدد هو ذلك المجتمع الذي يتكوّن من مجموعات بشرية متنوعة من حيث الدين، العرق، اللغة، الثقافة، أو الانتماء السياسي، والتي تعيش ضمن نطاق جغرافي واحد وتخضع لسلطة سياسية واحدة. تتنوع هذه الوحدات بين طوائف، جماعات عرقية، إثنية، وقومية... وقد تعيش هذه المجموعات بتوافق أو بصراع في ما بينها. 
فكيف أثّرت تعددية المجتمع السوداني في اندلاع الحروب الأهلية باستمرار؟ والحؤول اليوم دون توقفها؟

تركيبة السودان الداخلية
إستقلال السودان في عام 1956، كمعظم الدول العربية، حمله إرث الانقسام الذي أوجدته الإدارة الاستعمارية الأنكلو- مصرية، مرسخاً بنظام الحكم غير المباشر الانقسامات بين شمال عربي مسلم وجنوب متعدد العرق والدين بغالبه مسيحي. ما أدّى الى التركيز على الهويات الفرعية وضعف الولاء للدولة، فتعزز بذلك الانتماء إلى العشيرة او الطائفة، بحيث نتج منها تواتر اندلاع الحروب الأهلية، فكانت أولها في عام 1955 قبل الاستقلال عندما طالبت النخب الجنوبية بالحكم الذاتي الذي وُعِدت به من دون أن يتحقق. وقد انتهت مع اتفاقية أديس أبابا عام 1972 التي جلبت سلاماً هشاً، لم يُصلح الاختلالات البنيوية. 

259584Image1_123719.jpg

اتفاقية أديس أبابا 72 كمحاولة لإدارة الأزمة
مثلت اتفاقية أديس أبابا من حيث مضمونها، وسيلة لإدارة الأزمة التي تنخر جسد السودان، في ظل مجتمع متعدد. فكانت من حيث النص تقدم حلولاً كنموذج أولي لمقاربة سياسية تهدف إلى معالجة الانقسامات السودانية عبر مزيج من اللامركزية، الحكم الجماعي، وتقاسم السلطة على أساس نسبي، فتمثلت على الشكل التالي:

-البعد الفيدرالي متجسداً في إنشاء مؤسسات تشريعية وتنفيذية جنوبية تمتلك صلاحيات حقيقية في مجالات التعليم والإدارة المحلية والشرطة والثقافة، مع بقاء السيادة والشؤون القومية بيد الحكومة المركزية، مما أوجد صيغة قريبة من الفيدرالية وإن لم يُنص عليها صراحة.

-الحكم الجماعي الذي ظهر من خلال اعتماد بنية قيادية تشاركية في الجنوب، حيث أُنشئ مجلس تنفيذي يضم عدداً من الأعضاء يمارسون السلطة بصورة جماعية، إلى جانب الجمعية التشريعية التي تُساهم في صنع القرار المحلي، وهو ما حدّ من الطابع الفردي للحكم وفتح المجال أمام مشاركة أطراف جنوبية مختلفة.
-التمثيل النسبي، الذي انعكس في تخصيص نسب من المناصب المركزية للجنوبيين، سواء في الحكومة أو في القوات المسلحة أو في المؤسسات القومية، بما يضمن مشاركة أكثر توازناً بين الشمال والجنوب. كما تجلّى داخلياً من خلال تمثيل المديريات الجنوبية الثلاث في مؤسسات الحكم الذاتي بصورة متقاربة.

بذلك، أكدت الاتفاقية حتى على اعتراف الحكومة بالتباين الثقافي بين الشمال والجنوب وحق الجنوب في أن يبني ثقافاته وتقاليده ويطورها في نطاق سودان اشتراكي موحد، لكن ضعف تطبيقها لاحقاً أدى إلى انهيارها وعودة النزاع المسلح.

عودة الحرب الأهلية
إلا أنه في عام 1983 عادت نار الحرب لتشتعل عندما أعلن الرئيس جعفر النميري أن كل السودان دولة إسلامية تخضع للشريعة الإسلامية، بما في ذلك المنطقة الجنوبية ذات الغالبية غير الإسلامية، ملغياً منطقة الحكم الذاتي لجنوب السودان، كذلك اتفاقية أديس أبابا. ما أدى إلى اندلاع الحرب الأهلية السودانية الثانية التي استمرت حتى عام 2005 بحيث برز فيها الصراع بالوكالة.

فبعد ان كانت هذه الصراعات تقوم بين الجيش السوداني الذي يمثل الحكومة المركزية من جهة، وجماعات، ميليشيات أو حركات تحرير من جنوب السودان. 
جاء عام 2003 ليغير في المعادلة، إذ دعمت الحكومة ميليشيا الجنجويد التي جنّد أفرادها أساساً من القبائل العربية في غرب السودان لمواجهة القبائل في الجنوب، مؤدية إلى إبادة جماعية راح ضحيتها نحو 200 ألف شخص، ومرسّخة لنمط من تسييس الهويات القبلية وتوظيف الانقسامات التاريخية في إدارة الصراع. 

هذه الميليشيا ذاتها نظمت نفسها بعد عام 2005 تحت اسم "قوات الدعم السريع" بقيادة محمد دقلو "حميدتي". ومثلت نموذجاً لدولة ضمن دولة، ما شكّل مدخلاً لازدواجية القوة العسكرية ضمن الدولة الواحدة. كذلك ظهرت لأول مرة في تاريخ السودان الحديث قوة ثانية تنافس الجيش في قدراته العسكرية والمالية والبشرية. ولم يكن هذا التطور مجرد إعادة تنظيم إداري، بل مثّل تفكيكاً جوهرياً لاحتكار الدولة العنف المشروع، وفتح الباب أمام بناء نفوذ سياسي واقتصادي مستقل لـ"قوات الدعم السريع". كما أدى الى حدوث خلاف بين القوات والحكومة، التي ستسقط في ما بعد من دون أن تجد دعماً من حميدتي.

فهذه البنية العنيفة – ذات الطابع القبلي والمصلحي – تحولت بعد 2013 إلى مؤسسة رسمية مؤثرة، ما جعل البعد القبلي والجهوي جزءاً لا يتجزأ من مؤسسات الدولة المسلحة، وهو عامل مركزي في الصراع الحالي بين "قوات نيلية مركزية" يمثلها الجيش، و"قوات قبلية غربية" يمثلها "الدعم السريع".
بعدما انقلبت "قوات الدعم السريع" على البرهان، رافضة الإذعان للحكومة، والانخراط ضمن الجيش المركزي.

هذا كلّه جاء بعد سقوط نظام البشير، وتشكيل حكومة انتقالية بين البرهان وحميدتي، اللذين سيؤدي الخلاف بينهما الى الحرب الأهلية الثالثة التي بدأت عام 2023 ولاتزال مستمرة حتى اليوم.

فشل إدارة المجتمع واستمرار اندلاع الحروب فيها
ان الحربين الأهليتين اللتين حصلتا في السودان، كانتا ممهدتين لهذه الحرب الثالثة التي بدأت عام 2023، غذ كانت الأسباب تدور في الفلك نفسه. فقد نشبت الحرب بين الجيش المركزي و"قوات الدعم السريع"، بعد أسابيع من التحشيد العسكري المتبادل نتيجة الصراع الظاهري على السلطة، والذي وقفت خلفه كل الأسباب الآنفة الذكر.

ما يبين أن سبب استمرار هذه الحروب الأهلية، يعود الى سوء إدارة أزمة هذا المجتمع المتعدد في السودان، الذي تغيب لديه ثقافة التعايش، فقد فشلت الدولة منذ الاستقلال في بناء مشروع وطني شامل قادر على دمج التنوع الإثني والقبلي، ما أدى إلى عسكرة الهويات وتفكك الثقة بين المكونات الاجتماعية، فضلاً عن غياب مفهوم المواطنة الشاملة.

وفي الوقت نفسه، ضعف مؤسسات الدولة، أي الجيش والأجهزة الأمنية، وظهور قوى موازية مثل "الدعم السريع" خلق دولة داخل الدولة، حيث تسيطر ميليشيات على الموارد الاقتصادية الحيوية كالذهب والأراضي الزراعية، مع استقلالية شبه كاملة عن السلطات الرسمية. هذا التوزع غير المتكافئ للثروة والقوة جعل الأقاليم المهمشة مثل دارفور والنيل الأزرق وجبال النوبة، خزانات للتمرد والمنافسة المسلحة، فيما فشلت الاتفاقيات السياسية المتعاقبة في معالجة جذور الظلم الاجتماعي والاقتصادي. ما أسس منذ البداية للتدخلات الخارجية، إذ  كان غياب الانتماء للوطن، والمواطنة، يدفع كل جهة الى تحقيق مصالحها ونفوذها، مع عدم الاهتمام بتحقيق المصلحة الوطنية. 
فكانت كل جهة مدعومة من إحدى القوى الخارجية، التي تمولها عسكرياً مما يحثها على استمرار القتال، فضلاً عن تحقيق مصالحها الاستراتيجية الخاصة في السودان عبرها. 

فتميل مصر إلى دعم الجيش السوداني لحماية حدودها ومصالحها المرتبطة بمياه النيل وسد النهضة، بينما يقوم بعض القوى الإقليمية بتقديم دعم عسكري أو لوجستي الى أطراف أخرى في النزاع، حيث تبرز الإمارات العربية المتحدة كفاعل قوي في السودان، لما تشكله من أهمية في استراتيجية السودان لتوسيع نفوذها في المنطقة الإفريقية والبحر الأحمر. كذلك الأهمية الاقتصادية في ما يتعلق بالذهب. في حين تركز الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي على دعم القوى المدنية ومسارات الانتقال الديموقراطي. كما تنخرط دول الجوار، مثل إثيوبيا وإريتريا، في الصراع بدرجات متفاوتة لحماية مصالحها الحدودية والأمنية. كما يبرز دور تركيا، السعودية، والكيان الإسرائيلي الذي عاد اهتمامه بالبحر الأحمر كساحة أمن قومي بعد سيطرة "أنصار الله" عليه.

ما يزيد من تعقيد الأزمة ويضعف فرص التوصل إلى تسوية شاملة، ويعرقل جهود الوساطة الرامية إلى وقف النار. إذ أن القرار ليس فردياً لأي جهة، فهناك من يقف خلف قرار كل منها، حتى بات السودان ساحة تصارع الدول، ومحاولة إبعاد كل منها منافسها الإقليمي أو الدولي،  إضافة الى غياب الإنتماء للوطن وطغيان شعور المواطنة الذي يدفع الأطراف الى العيش المشترك.