"ملحق النهار" الثقافيّ الذي في بيته منازل كثيرة - وضوح نيوز

النشرة (لبنان) 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

نعرض لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى المقال الاتي:
"ملحق النهار" الثقافيّ الذي في بيته منازل كثيرة - وضوح نيوز, اليوم الجمعة 19 ديسمبر 2025 05:50 مساءً

في مثل هذه الأيّام، قبل عشر سنين، توقّف "الملحق"، "ملحق النهار" الثقافيّ، عن الصدور للمرّة الأخيرة. وكان صدر للمرّة الأولى في العام 1964، وتوقّف في نهاية العام 1974، ليعود إلى الصدور في العام 1992، ثمّ ليسدل الستار نهائيًّا، عشيّة رأس السنة 2016.

أستلُّ من "كتاب الغرفة" الصادر للتوّ لدى "هاشيت أنطوان/نوفل"، فصلًا من المفيد الاطّلاع عليه، يتعلّق بتجربة "الملحق" وأثره وجريدة "النهار" في الثقافة اللبنانيّة والعربيّة.

في العام 1997 تكاثرتْ عليَّ الضغوط المعنويّة من الصحافيّ التاريخيّ العريق، صاحب المؤسّسة، ومن الشاعر الكبير، للانضمام إلى المجموعة العاملة في "الملحق"، من أجل إضفاء مناخٍ مختلف. وقد شعر الرجلان بأنّ المنبر يحتاج إلى هذا المناخ، ليصل إلى مختلف الوجدانات والضمائر الثقافيّة، اللبنانيّة والعربيّة، المتنوّعة. كنتُ أتهيّب المسؤوليّات المباشرة، لاعتقادي أنّي أكثر فاعليّةً في العمل، من وراء الكواليس. كنتُ ولا أزال أكره الواجهات، مُؤثِرًا الابتعاد عن الضوء. لكنّي سرعان ما وجدتُني أنضمّ انضمامًا طوعيًّا. كان ثمّة سببٌ إضافيٌّ حاسم، تمثّل في الرحابة الثقافيّة والشخصيّة التي غمرني بها الروائيّ الكبير، الذي كان يشرف آنذاك على إصدار "الملحق". لن أنسى تلك الرحابة ما حييتُ. هي، هذه الرحابة بالذات، جعلتْني أنخرط في المواجهة العلنيّة، لا الثقافيّة فحسب، بل المواجهة السياسيّة والوطنيّة، التي راحت تترسّخ سنةً بعد سنة، لتبلغ ذروتها في موازاة تصاعد الوصاية السوريّة الثقيلة على لبنان، أرضًا وشعبًا ووجودًا. 

"تعلّمتُ" من زملائي في "الملحق" ما درج هؤلاء على اعتباره شربة ماء، وخبزًا يوميًّا على مائدة العمل الثقافيّ والوطنيّ. أقول الخبز، وأعني الحبر الأبيّ، وهو الحبر الذي جعله هذا المنبر بارقًا، مغامرًا، متخطّيًا فيه الخطوط الحمر للكتابة في أزمنة الاستبداد الديكتاتوريّ.

أتذكّر السنوات التي سبقت العام 2005، عام الزلزال الاستقلاليّ، وأتذكّر ذلك التاريخ حصرًا، وبالذات، وأتذكّر ما بعده، رائيًا في تلك الحقبة، حقبة الاستقلال الثاني، خلاصة ما حقّقه مختبرنا الطليعيّ على صعيد الكتابة الجديدة الحرّة، وعلى صعيد خلقِ تيّارٍ ثقافيّ – فكريّ – سياسيّ – وطنيّ، يجب أنْ يؤخذ كمادّةٍ للتأريخ الدلاليّ، باعتباره محطّةً فارقةً في عمر لبنان الثقافيّ.

كان "الملحق" هو الشرارة، وهو الفرن، وهو الخبز، وهو البوصلة. ولطالما حمله الصديق الشهيد، ورفعه عاليًا في الساحة الاستقلاليّة الكبرى، داعيًا الأجيال الشابّة إلى الاهتداء بحذافيره، لمواجهة الليل الأمنيّ الجائر، وصولًا إلى الفجر. 

***

عندما أخطرتْني إدارة الجريدة، قبل أسبوعَين من حلول رأس السنة 2016، بأنّه من غير الممكن الاستمرار في إصدار "الملحق" بالحجم الذي كان عليه في مرحلته الأخيرة، عارضةً عليَّ الاكتفاء بصفحتَين من أصل ثماني صفحات، قرّرتُ في الساعة نفسها إطلاق رصاصة الرحمة على ما كنتُ أعتبره الصهيلَ الألذّ في الصحافة الثقافيّة العربيّة. لم يساورْني أيّ تردّدٍ حيال هذه المسألة، وحيال ما ينبغي لي القيام به، فقد كان "الملحق" لي، دَينًا وأمانةً في العنق يتخطّيان كلّ الاعتبارات المهنيّة، أو الاقتصاديّة، أو السياسيّة، أو سواها من الاعتبارات. 

تيمّنًا بالفرسان المقيمين في الذاكرة الأسطوريّة، وفي الوجدان الجمعيّ للنبلاء، وتماهيًا مع صوَرهم، أسدلتُ الستار عشيّة رأس السنة تلك، على رأس الحربة الثقافيّة الأبرز، في لبنان والعالم العربيّ، مُؤثِرًا أنْ تكون المقتلة علنيّةً وفادحة، رصاصةً في الرأس، لا في القدم أو الخاصرة، ولا على طريقة الموت البطيء.

كنتُ قرأتُ في الكتب عن مصير الخيول الأصيلة، وعن مسؤوليّة فرسانها في هذا الشأن، مُدركًا أنّ التلاعب بالمصائر يوازي فعل الجريمة. كنتُ أعرف بالحدس أنّي خُلِقتُ لأداء دورٍ كهذا، متهيّئًا على الدوام لتلقّف مثل هذه اللحظة، محصَّنًا بالقيم الثقافيّة والأخلاقيّة التي تنشّأتُ عليها، ومتلفّعًا بأرواح أهلي وأجدادي، وهاماتهم المهيبة. 

في تلك المرحلة، كانت العاصفة الوجوديّة تشتدّ على لبنان الثقافيّ، وعلى كينونته الجوهريّة، وكان هذا اللبنان متروكًا في مهبّ الجريمة، ليواجه مصيره القاتم بجسده الأعزل. 

لطالما كنتُ أُنصِتُ في الليالي المتأرّقة إلى صوته صارخًا في أعماقي، ومستنجدًا: أيجوز أنْ يُترَك الكائن العاجز إلى مصيره، عندما لا يعود في مقدوره أنْ يكون حرًّا في جسده وعقله؟ وكان الصراخ يتردّد في عقلي الباطنيّ، وفي وعيي الليليّ المتنبّه، محذِّرًا، ومستحثًّا إيّايَ: أيحقّ لكَ، أنتَ المقيمَ في حصانة عزلتكَ، أنْ تتيح للوقائع والظروف الموضوعيّة المأسويّة أنْ تشقّ مجراها، من دون أنْ تفعل شيئًا مأسويًّا مضادًّا؟ 

 

غلاف أحد أعداد الملحق في مرحلته الثانية والأخيرة.

غلاف أحد أعداد الملحق في مرحلته الثانية والأخيرة.

 

في قرارتي الدفينة، لطالما كنتُ أستحضر من الميثولوجيا، شخصيّتَين حبيبتَين إلى قلبي؛ الأولى شخصيّة دونكيشوت من الذاكرة الأسطوريّة الإسبانيّة والإنسانيّة، مُعبِّرًا عن إعجابي الغامض بهذا البطل الشعريّ، بطواحينه، بسيفه، وبحصانه. الثانية، شخصيّة البطل الإغريقيّ سيزيف، أو سيسيفوس، الذي أغضب كبيرَ الآلهة الإغريق، زوس، فعاقبه بإجباره على حَمْل صخرةٍ من أسفل الجبل إلى أعلاه، فإذا وصل إلى القمّة، تدحرجتْ إلى الوادي، فعاد إلى رفعها، صائرًا بذلك رمزًا للعذاب الأبديّ، ولمقارعة المستحيل الإلهيّ، في الآن نفسه.
كان رفض الأمر الواقع شغلي الشاغل، في حياتي كلّها. 

كان الزمن اللبنانيّ، قد أرسل نُذُر خريفه الطاعن، طوال الأعوام الثلاثة السابقة الأخيرة، أي بين عامَي 2012 و2015، بتدرّجٍ مفجعٍ للغاية. وكان يجدر بي، أنا المقيمَ في غرفتي تلك، المحصّنة بعافية الروح، وانتباه الفؤاد، في الشقّة المطلّة واجهتها الغربيّة على الأزرق المتوسّط، أنْ أعرف أنّ الخارج كلّه، وأنّ الأمكنة والمؤسّسات والأشياء، صائرةٌ في بلاد الصغائر إلى انهيارٍ دراماتيكيّ، وأنّ الأعمدة التي قام عليها لبنان الحديث تتزلزل واحدًا تلو آخر، وأنّ دويّ تَساقطها يُحدِث أسىً عميمًا في مملكة وعييَ الشخصيّ، الناظر بعجزٍ هائل إلى ما يجري أمامه، من دون أنْ يتمكّن من إزاحة حجر الموت عن صدر لبنان، وإنْ لإرسال حشرجة. كان لا بدّ من تلك الرصاصة، وقد أطلقتُها على "الملحق"، لأنّي كنتُ أحتفظ بها في قعر الرأس. وكنتُ قد تولّيتُ إدارة تحريره في العام 1997 بالتعاون مع رئيس تحريره الروائيّ الكبير، ثمّ تولّيتُ الإشراف على رئاسته وإدارته حصرًا، مذ قرّرتِ المؤسّسةُ الاستغناء عن خدمات صديقي الروائيّ في تشرين الأوّل من العام 2009. 
إلى أنْ أطلقتُ بنفسي رصاصة الرحمة عليه، عشيّة رأس السنة 2016.

***

كان "الملحق" بيوتًا في بيت، وأزمنةً في زمن، ومختبرًا ثقافيًّا في المختبر العقليّ الكبير، وكان بلادًا جمّةً، بكلّ ما تعنيه البلاد من فكرةٍ وجوهرٍ وكينونة. بل كان حياةً مطلقة. وإذ أستذكره الآن في صيغة الماضي، فلأنّي لا أبتغي الاستغراق في أيّ نوعٍ من الأسى. وإذا كان ثمّة أسىً، فهو على لبنان "الملحق" في مراحله كافّةً، لا على المنبر الإعلاميّ والثقافيّ في ذاته فحسب. فقد كان لبنان هذا، الذي بلغ أوْجَه، من طريق الهجس بالحرّيّة، وأسئلتها، ومداولاتها، وموجباتها الجريئة، يُختَطَف يوميًّا من حبر حياتنا وأيدينا وعقولنا، وكان يُزهَق بانتظامٍ، نسمةً في إثر نسمة، وبرقًا في إثر برق. لكنّنا كنّا نكابر، ونعاند، ونرفض الرضوخ للأمر الواقع. وكنّا نكافح للصدور باللحم الحيّ. وكنّا نبصر النور أسبوعيًّا بشقّ الأنفُس. وكانت الأدوات التي بين أيدينا ترمز إلى الكفاف، وإلى شظف العيش الذي كان يحياه آباؤنا من أجل مواجهة المشقّات، وتأمين فرص التعليم والترقّي للأبناء. لم يكنْ أحدٌ في العلن يدري بما كان يعانيه "الملحق" في ما وراء الكواليس، في المطبخ الاختباريّ الذي كان يقيم فيه بعضٌ من أهل الندرة الفكريّة والثقافيّة والسياسيّة. كان الرأي العامّ، القارئ المتلقّي في وجهٍ خاصّ، يعتقد أنّ وراء لبنان "الملحق" جيشًا من الإداريّين والكتّاب والمفكّرين والعاملين، وأنّ هذه "المؤسّسة" أقوى من أنْ تنال منها متغيّراتٌ موضوعيّةٌ، عامّةٌ وخاصّة. في مقدوري الآن أنْ أشهد أنّ الواحد منّا كان يساوي مئة. هذا أقلّ ما يمكن قوله في الفرسان الذين تعاقبوا على حمل الراية. ولا أغالي إذا كنتُ مؤمنًا بأنّ لبنان الثقافيّ هو جوهر لبنان، وبأنّ لبنان "الملحق" هو بعضٌ من خلاصات هذا الجوهر، وبأنّ فرسانه هم نماذج لما ينبغي أنْ يكون عليه رجال الثقافة، والشأن العامّ، بل رجال الدولة، في كلِّ زمانٍ ومكان.

لا بدّ من تأريخ تلك التجربة بحذافيرها. 
لا بدّ من أنْ يتولّى باحثٌ متمكّنٌ القيام بهذه المهمّة، من أجل توثيق الفعل التأريخيّ، ليس إلّا. 

من غرفتي حيث أنا الآن، أراني أُسلسُ القياد لسجيّتي الكتابيّة لكي تشهد للبنان هذا، الذي تَشارَكَ كُثُرٌ في الإجهاز عليه. وكم يعزّ عليَّ أنْ أكون الشاهد الأخير الوحيد الذي رافق "الملحق" إلى مثواه، مجلَّلًا بالكِبْر وبشرف الموت العزيز. وإذا كنتُ أشعر بنوعٍ من العزاء، فلأنّي لم أفرّطْ بأيِّ ذرّةٍ من ذرّات المعنى الذي قامت عليه فكرة لبنان الثقافيّ، ولا بأيِّ صورةٍ من صُوَر المثقّف الحرّ.

***

يصعب على شخصٍ مثلي ألّا يكون "ضعيفًا" حيال جريدة "النهار"، أيّام العزّ. أنا الذي كنتُ اعتراضيًّا وتغييريّا، لا يمينيًّا، ولا يساريًّا (وفق التقسيمات الجاهزة والساذجة)، وكنتُ لا حزبيًّا على الدوام، كيف كان يمكنني ألّا أجد في "النهار" تلك الرحابة الفريدة من نوعها، التي لم يكن لها ثمّة مثيلٌ إعلاميّ، وصحافيٌّ، بل ثقافيٌّ، في لبنان، وفي العالم العربيّ كلّه.

كنتُ أقرأها كلّ يوم، شأني شأن أهلي وأجدادي، وشأن أصحابهم ومعارفهم. كانت تلك الجريدة جزءًا لا يتجزّأ من حرّيّتي، ومن ثقافتي اليوميّة، آخذ منها ما يتلاءم مع أفكاري عن التنوّع والاختلاف، فضلًا عمّا كانت تختزنه صفحاتها وملحقها الثقافيّ الأسبوعي، في حقباتهما المختلفة السابقة، من محفِّزات الحلم والعقل والحرّيّة والنقد والإبداع، قبل أنْ يحلّ الظلام اللبنانيّ العميم.

عملتُ منذ البداية في الصحافة، ودائمًا في "النهار"، فلم يتعرّض مقالٌ من مقالاتي للتحريف، أو للحذف، أو للتشذيب، أيًّا كانت الأفكار والآراء التي ينطوي عليها.

عندما أعود إلى غرفتي، لأتأمّل المصير الذي آلت إليه الصحافة عمومًا، والصحافة الثقافيّة خصوصًا، أجدني في حالٍ مفجعةٍ من الفَقد، توازي عندي ما يُصاب به وجدان المرء عندما يُطعَن في صميمه.

أنا هو اليتيم، المطعون في الصميم، كيف لا أدعو علنًا إلى ممارسة القتل الرحيم. 

لكنّي، إذ أتأمّل الزمن الذهبيّ المندثر، أنظر إلى ما آلت إليه الصحف والمجلّات، من دون أنْ أرى لزوم إطلاق أيِّ أحكامِ قيمةٍ في هذا الشأن. لا يهمّني تقمّص دورٍ كهذا. يقتلني فقط أنّ هذا المصير هو، في معنىً ما، مصيري أنا أيضًا. ولا أجد مَن يجدر به أنْ يعزّيني!