المحراث البلدي الصعيدي.. فخامة أداة الأجداد التي ما زالت تحرث الأرض وتقاوم الزمن - وضوح نيوز

اخبار جوجل 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

نعرض لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى المقال الاتي:
المحراث البلدي الصعيدي.. فخامة أداة الأجداد التي ما زالت تحرث الأرض وتقاوم الزمن - وضوح نيوز, اليوم الخميس 25 ديسمبر 2025 03:00 صباحاً

في قلب صعيد مصر، وتحديدًا بمحافظة قنا، حيث تمتد الحقول على مدّ البصر وتتشابك حياة الإنسان مع تراب الأرض، يقف المحراث البلدي الخشبي شاهدًا حيًا على عبقرية الأجداد وبساطة أدواتهم وعمق علاقتهم بالزراعة. ليس مجرد أداة لحرث التربة، بل ذاكرة متحركة تختزن عرق الفلاحين، وتروي حكايات زمنٍ كان فيه العمل شراكة مقدسة بين الإنسان والحيوان والأرض.

يُجرّ المحراث البلدي الصعيدي بواسطة بقرتين مدرّبتين، تسيران في انسجام هادئ، بينما يشق المحراث غيطان الحقول خطوطًا طويلة مستقيمة، كأنها سطور تُكتب على صفحة الأرض.

ويقوم المحراث بـ«قلع القور» مرة و«فجّها» مرة أو مرتين، أو كما يقول فلاحو الصعيد بلهجتهم الدافئة: «يديها وش ثم وشين»، أي يحرث الأرض مرة أو مرتين حسب حاجتها.

ويتكوّن المحراث من عمود خشبي رئيسي قوي، و«الحلس» الذي يُثبَّت على رقاب الأبقار، و«السكة» المصنوعة من خشب مدبب، وأحيانًا تُدعَّم بالحديد، إضافة إلى الدفة التي يمسك بها الفلاح ليوازن بين الخطوط (السرايب)، حتى لا تُخلع القور، أي جذور النبات.

ولا تُؤدى هذه المهمة إلا بعد أن تُروى الأرض وتُترك لتجف قليلًا، حتى تلين وتستجيب لحدّ السكة وشقّها العميق.

رغم هيمنة الجرارات الزراعية الحديثة التي تعمل بالسولار، ما زال المحراث البلدي الصعيدي الخشبي يحتفظ بمكانة لا يمكن الاستغناء عنها في زراعة القصب. فمزارع القصب يحتاجه كل عام مرة أو مرتين، خاصة بعد كسر وحصاد القصب وحرق القش، ثم ريّ الأرض وتركها حتى تجف.

حينها ينزل المحراث ليشق الحقول في خطوط منظمة، دون أن يقتلع جذور القصب، بل يحافظ عليها، ويساعد في وصول السماد البلدي والكيماوي إلى عمق التربة، وهي ميزة تعجز عنها بعض الآلات الحديثة في هذه المرحلة الدقيقة.

يقول العم سيد عبد الناصر، أحد المتخصصين في المحاريث البلدية بالصعيد، إن العمل يبدأ مباشرة بعد حصاد وكسر القصب، مؤكدًا أن المحراث مهنته الوحيدة التي ورثها عن آبائه وأجداده. ويشير إلى أن فدان القصب يُحرث مقابل نحو 2500 جنيه.

وتعمل الأبقار من الصباح الباكر حتى العاشرة صباحًا فقط، نظرًا لشدة المجهود، فالحرث يتطلب رفقًا بالحيوان وخبرة في التعامل معه. ويؤكد أن نجاح العملية يعتمد على مهارة الفلاح في الضغط المتوازن على المحراث وضبط الخطوط بدقة، حتى تتحقق الفائدة دون الإضرار بالجذور.

ويضيف حسين الهلالي، أحد كبار المزارعين في قنا، أن دور المحراث البلدي لا يقتصر على القصب وحده، بل يُستخدم أيضًا في خطوط الذرة الرفيعة والذرة الشامي، والبصل والثوم، والفول الحراتي، والكرنب، ومحاصيل الخضر.

ورغم أنه لم يعد حاضرًا في كل الحقول كما كان في العقود الماضية، فإنه ما زال «يصول ويجول» في أراضٍ تحترم إيقاع الأرض وتُقدّر حكمة الأسلاف.

بين الإنسان والحيوان… شراكة حياة.

يمشي الفلاح بمحراثه مسافات طويلة بين الأحواض والنمر، وفق نظام حجز مسبق، حتى لا يحرث إلا الأرض المكلّف بها. وفي يده «مقلاع» أو «فرقَلّة» لا يُستخدم للضرب، بل لإصدار صوت يوجّه الحيوان ويُخيفه فقط.

فالبقرة ليست أداة عمل فحسب، بل «المطبخ المتحرك» كما يصفها الفلاح، تسقي صغاره اللبن، ويُصنع منها الجبن والسمن البلدي، في علاقة قوامها الرحمة قبل الإنتاج.

اليوم، يواجه المحراث البلدي شبح الاندثار أمام تسارع التكنولوجيا. غير أن هناك من يسعى لتوثيقه وحمايته، من مصورين وباحثين في التراث الصعيدي، أدركوا أن ضياع هذه الأداة هو ضياع فصل كامل من حكاية الفلاح المصري، تلك الحكاية التي سجّلها الأجداد قديمًا على جدران المعابد، وآن الأوان لإحيائها بالصورة والكلمة.

إن المحراث البلدي الصعيدي ليس مجرد خشب وسكة وبقرتين، بل رمز لفلسفة حياة كاملة، عنوانها الصبر، والاعتماد على الجهد، واحترام الأرض. هو فخامة الأجداد في أبسط صورها، وذاكرة زراعية ما زالت تنبض بالحياة. والحفاظ عليه وتوثيق حضوره هو حفاظ على هوية الصعيد، وعلى روح الفلاح المصري التي صنعت الأرض… وما زالت.