نعرض لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى المقال الاتي:
لو طُبّقت تجربة فؤاد شهاب اليوم… أيُّ لبنان كنا سنرى؟ - وضوح نيوز, اليوم الأربعاء 10 ديسمبر 2025 09:15 صباحاً
كاتب لبناني وباحث في الأدب والفكر الإنساني
لا يحتاج لبنان إلى معجزة بقدر ما يحتاج إلى دولة. وهذه الدولة ليست فكرة تجريدية ولا أمنية طوباوية، فقد عرفها اللبنانيون مرّة، حين تولّى فؤاد شهاب مسؤولية حكمٍ كان يرى فيه أن بناء المؤسسات أهم من بناء الأمجاد، وأن العدالة الإدارية شرط لكل عدالة اجتماعية. وماذا لو طُبّقت تجربة فؤاد شهاب الآن؟ فليس من قبيل الحنين أن نستعيد تلك التجربة، بل من قبيل الحاجة.
لم يكن شهاب سياسياً تقليدياً، بل كان يعرف لبنان كما يُعرَف الجرح: هشاشته قبل أناقته، وفقره قبل ألقه، وتوازناته قبل تناقضاته. ولذلك انصرف إلى «الأساس» قبل «الواجهة». في عهده، لم تُشق الطرقات ترفاً بل حاجة، ولم تُبنَ المستشفيات لالتقاط الصور بل لخدمة الأطراف، ولم تُفتَح المدارس الرسمية لمجاراة مزاج انتخابي بل لإحداث نقلة اجتماعية ضرورية. وقد ارتفع عدد المدارس الرسمية في سنواته إلى ما يزيد على مئتي مدرسة جديدة، في خطوة هدفت إلى سدّ حرمان المناطق.
لو طُبّقت تجربة فؤاد شهاب اليوم، لبدأ الإصلاح من حيث يجب: الإدارة. كان الرجل يعتبرها قلب الدولة ومحور استقرارها، ولذلك أرسى فلسفة الخدمة العامة القائمة على الجدارة لا على الولاء. فالموظف في رؤيته ليس تابعاً لزعيم، بل تابع للقانون. وكان شهاب يرى أن أي إصلاح لا يبدأ بالإدارة يبقى مجرّد تجميل هشّ فوق أرض رخوة. وفي زمن تتفشّى فيه الفوضى والزبائنية، لكان تطبيق هذا المنطق كفيلاً بتحويل الإدارات العامة إلى ورشات فعّالة تستعيد هيبة الدولة ودور المؤسسات. فمجلس الخدمة المدنية، والتفتيش المركزي، وديوان المحاسبة لم تكن مجرد هياكل، بل كانت حراساً لمشروع الدولة.
وفي الاقتصاد، كان شهاب ليضع حداً لثقافة الاسترضاء السياسي التي دمّرت المالية العامة. أنشأ مجلس التخطيط ووضع أسساً لاقتصاد منتج، وسعى للابتعاد عن الريع الذي يستهلك ولا يبني. شملت خططه الإنمائية ربط المناطق النائية بالشبكة الوطنية عبر الطرق، مثل شبكة الطرق في عكار والهرمل والجنوب، ما سمح للمواطنين بالدخول في الدورة الاقتصادية الوطنية. وقد أثبت الزمن أن الدول التي اعتمدت على الاقتصاد المنتج هي وحدها التي صمدت أمام الأزمات، بينما انهارت الاقتصادات القائمة على الريع عند أول اهتزاز. ولو طُبّقت هذه الروحية اليوم، لكان لبنان قد انتقل تدريجياً من اقتصاد هشّ قائم على الخدمات والمصارف إلى اقتصاد متوازن يحمي الطبقة الوسطى ويحدّ من الهجرة.
أما السياسة الاجتماعية، فكانت أحد أعمدة رؤيته. فقد أراد دولة تحمي مواطنيها لا دولة تنتقيهم. أطلق مشاريع تنموية في الأطراف ووسّع الخدمات الحكومية بهدف الحدّ من اللامساواة التي تهدّد الوحدة الوطنية. وكان يؤمن أن المواطن في الأطراف ليس مواطنًا من الدرجة الثانية، بل هو امتحان الدولة الحقيقي. ولو استعيد هذا النهج اليوم، لما كانت المناطق الريفية غارقة في الإهمال، ولما تكدّست العاصمة بكل أثقالها البشرية والمعيشية بينما يفرغ الريف إلا من شيخوخة متعبة.
وفي الأمن، قدّم شهاب نموذجاً مختلفاً: أمن قائم على الانضباط والاحتراف، لا على الاستنفار الطائفي أو الفوضى الميليشياوية. وُلدت في عهده مؤسسات أمنية راسخة، وحدّد بدقة العلاقة بين الأمن والسياسة، بحيث لا ينافس السلاحُ الشرعيَّ أيُّ سلاح، ولا تتوزّع الدولة بين قوى أمر واقع. ولو طُبّق هذا النهج اليوم، لكان اللبنانيون يعيشون في بلد مستقرّ يعرف فيه الجميع حدود القانون وحدود القوة الشرعية.
لكنّ الركن الأعمق في التجربة الشهابية كان النزاهة. خرج شهاب من الحكم كما دخله: نظيفاً، زاهداً، غير متشبّث بالكرسي ولا طالباً شعبية. وكان يدرك أن الدولة أكبر من الرؤساء، وأن المؤسسات أهم من الأشخاص. وهي ليست معجزة في الواقع، بل هي ببساطة جوهر رجل الدولة. وفي زمن تتداخل فيه المصالح الخاصة بالقرارات العامة، لا يمكن لهذه الروح إلا أن تبدو كأنها معجزة، مع أنها ليست كذلك.
اليوم، لو طُبّقت تجربة فؤاد شهاب، لكان لبنان عرف أولاً معنى الشفافية، ولكانت الدولة استعادت ثقة الناس، ولكانت الموازنات العامة خالية من الهدر الممنهج، ولكان القضاء مستقلاً بحق، ولكانت الانتخابات تجري وفق آليات حديثة لا وفق نفوذ، ولكانت المدارس الرسمية تنهض بدل أن تتهاوى، ولكانت المستشفيات الحكومية تعمل وفق معايير لا وفق توازنات، ولكانت الإدارات قائمة على الكفاءة لا على “التوصيات”، ولكانت السياسة الاجتماعية تُدار وفق الحاجة لا وفق المحسوبيات.
وقد طال الحديث في العقود الأخيرة عن ضرورة «شهابية ثانية» لا تعيد الماضي كما هو، بل تستفيد من فلسفته، وتُكيّفها مع لبنان الذي تغيّر، من الإدارة الرقمية إلى اللامركزية الإنمائية. وإن أي خطوة نحو هذه التجربة، مهما كانت صغيرة، ستعيد للبنانيين شعورهم بوجه الدولة العادل: دولة تحميهم، لا دولة تُهينهم. دولة يسمعون صوتها في القانون، لا في الصراخ. دولة يفاخرون بها، لا يهربون منها.
قد لا يعود فؤاد شهاب جسداً، لكنّ تجربته لم تمت. إنها محفوظة في الأرشيف، وفي ذاكرة الناس، وفي صدى مؤسساتٍ أرادها أن تكون أعمدة للدولة لا ديكوراً لها. وهي اليوم أشبه بجَمرةٍ تحت الرماد: يكفي أن نمدّ إليها شيئاً من الإرادة والصدق لتشتعل من جديد نار الدولة التي نستحقّها.
ويبقى السؤال الذي يختصر كل شيء:
هل نملك شجاعة أن نختار دولة تثبت التجربة أنها ممكنة، أم نبقى أسرى نظامٍ اعتاد الهدم أكثر مما عرف البناء؟