هجوم البادية على القوات الأميركية: خطاب "داعش" واختبار الشراكات الدولية - وضوح نيوز

النشرة (لبنان) 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

نعرض لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى المقال الاتي:
هجوم البادية على القوات الأميركية: خطاب "داعش" واختبار الشراكات الدولية - وضوح نيوز, اليوم الأحد 14 ديسمبر 2025 10:45 صباحاً

لم يأتِ الهجوم الذي أودى بحياة جنود أميركيين في البادية السورية حدثاً أمنياً معزولاً، ولا يمكن فصله عن لحظة سياسية وأمنية تتشكّل على أكثر من مستوى. ففي التوقيت ذاته الذي تعرّضت فيه قوة تعمل ضمن التحالف الدولي لهجوم قاتل، كان تنظيم "داعش" يعيد رسم موقعه في المشهد السوري عبر افتتاحية لافتة في صحيفة "النبأ"، يعلن فيها أن سوريا "تحرّرت من الشريعة" ويعد بإعادتها إلى "حضن الإسلام".

 

بين الحدثين لا تقوم علاقة سببية مباشرة، بقدر ما يتكشف مسار واحد: انتقال التنظيم من مراقبة التحوّلات السورية إلى اختبارها ميدانياً وسردياً، في لحظة إقليمية ودولية حساسة.

 

افتتاحية "النبأ" لم تكن نصاً دعوياً تقليدياً، بل بيان سياسي مكتمل الأركان. يبدأ التنظيم بالسخرية من احتفالات "عيد التحرير"، ثم يوسّع الهجوم ليشمل تجارب الاستقلال العربية، قبل أن يضع القيادة السورية الجديدة في خانة "الطغاة الجدد" الذين لم يستمدوا شرعيتهم، وفق روايته، إلا من الخارج. غير أن الأهم في النص ليس الاتهام في ذاته، بل الخيط الذي يربط فيه بين الوقائع: التحرير، والانفتاح السياسي، والحديث عن إلغاء العقوبات، ثم الشروط الأميركية. في هذا السرد، لا تظهر سوريا كدولة خارجة من حرب فحسب، بل كنظام جديد تُعاد هندسته برعاية دولية.

 

وسط هذا البناء، تبرز العبارة الأخطر: "طُويت صفحة الثورة السورية بسوريا محرّرة من الشريعة". هنا لا يكتفي "داعش" بتكفير السلطة فحسب، بل يعلن حكماً على البلاد نفسها. سوريا، بهذه اللغة، لم تعد ساحة نزاع سياسي، بل أرض خرجت من الإسلام، ما يحوّل استعادتها إلى واجب قتالي عابر للحدود. بهذا المعنى، لا يخاطب "داعش" الداخل السوري وحده، بل جمهوره الأوسع، مقدّماً سوريا مجدداً بصفتها ساحة مركزية في صراع عالمي على "هوية الأمة"، بعد سنوات من تراجعها لمصلحة ساحات أخرى.

 

هذا التصعيد الخطابي لم يبقَ في حدود اللغة. خلال الأسابيع القليلة الماضية، تبنّى "داعش" عمليات استهدفت دوريات أمنية ومؤسسات آخذة في التشكل، في وقت كانت فيه الأجهزة الأمنية السورية تكثّف حملاتها ضد خلاياه، بالتوازي مع إعلان انضمام سوريا الجديدة إلى التحالف الدولي. بالنسبة للتنظيم، شكّل هذا التداخل إعلان نهاية مرحلة "الفراغ" التي عاش عليها طويلاً، وبداية مرحلة تُعامل فيها سوريا كدولة تحاربه لا كفصيل ينافسه.

 

في هذا السياق، جاء الهجوم في البادية الذي أسفر عن مقتل جنود أميركيين ومدني مرافق، ليمنح خطاب "النبأ" ترجمة ميدانية عالية الدلالة. واشنطن تعاملت مع الحادثة بصفتها جزءاً من الحرب المستمرة ضد "داعش"، لا كإخفاق شراكة أو حادث محلي، وهو ما يجعلها أقرب إلى تبرير استمرار وجودها العسكري منه إلى مساءلتها. ولم يقتصر الرد الأميركي على البنتاغون وحده؛ إذ قال الرئيس دونالد ترامب إن الولايات المتحدة "سترد" بعد مقتل ثلاثة أميركيين في الهجوم الذي تُحمّله واشنطن لـ"داعش".

 

في المقابل، سارعت "قوات سوريا الديموقراطية" (قسد) إلى إصدار بيان يؤكد الشراكة مع التحالف ويضع الهجوم في سياق المعركة المفتوحة مع التنظيم، في رسالة تُظهر نفسها فيها بصفتها الشريك الأكثر انضباطاً ووضوحاً في تعريف العدو.

 

 

سخر داعش من احتفالات عيد التحرير. (أ ف ب)

سخر داعش من احتفالات عيد التحرير. (أ ف ب)

 

على الجانب السوري، بدت الرواية أكثر تعقيداً. وزارة الداخلية تحدثت عن تحذيرات مسبقة من احتمال حصول خرق أمني، وأكدت أن المنفّذ لا يرتبط بأي موقع قيادي داخل الجهاز. في الوقت نفسه، نقلت وسائل إعلام قريبة من السلطة روايات عن كون المنفّذ عنصراً أمنياً كان موجوداً في مكان الاجتماع، قبل أن تُنقل عن مسؤولين سوريين رواية أكثر مباشرة تفيد بأن منفّذ الهجوم كان فرداً من قوات الأمن. وكون المنفّذ "فرداً من قوات الأمن" لا يحسم وحده سؤال الولاء؛ فقد يكون اختراقاً فردياً أو تعاطفاً أيديولوجياً استثمر موقعاً وظيفياً لضرب الشراكة من الداخل. واللافت أن تنظيم "داعش"، رغم تصعيده الخطابي في "النبأ"، لم يصدر حتى الآن بياناً رسمياً يتبنّى فيه العملية، ما يُبقي الواقعة معلّقة بين توصيفات متباينة ويمنح الشك مساحة أكبر من اليقين.

 

وسرعان ما انتقلت الحادثة من إطارها الأمني إلى ساحة صراع سرديات. على وسائل التواصل. وذهبت روايات إلى حد تسمية المنفّذ وربطه بشخصيات أمنية، استناداً إلى صفحات جهادية أو حسابات سياسية، من دون أي تأكيد رسمي، وبمعطيات متناقضة، بينها الخلط بين إطلاق نار و"تفجير انتحاري". هذه الروايات، رغم ضعفها، كشفت هشاشة اللحظة وسرعة تحوّل الشك إلى أداة ضغط قادرة على إرباك الدولة الناشئة وشركائها.
لكن الهجوم لم يبقَ حدثاً سورياً صرفاً. فمقتل جنود أميركيين نقله فوراً إلى مستوى دولي، يُقرأ في واشنطن اختباراً للشراكة الجديدة في مكافحة الإرهاب، ويمنح المتحفّظين في أوروبا ذريعة إضافية للتريّث في تخفيف القيود، فيما يلتقطه إعلام "داعش" بصفته مادة تعبئة عابرة للحدود. بهذا المعنى، لم يعد المشهد محصوراً بالبادية، بل صار جزءاً من صراع أوسع على تعريف سوريا الجديدة وموقعها بين شركائها.

 

في هذا المشهد، لا يبدو "داعش" معنياً بحوادث اختراق عسكري واسع بقدر ما يسعى إلى ضرب الثقة. ضربة محدودة، في توقيت محسوب، كافية لإعادة فتح الأسئلة داخل العواصم الكبرى حيال طبيعة الشراكة وحدود الرهان وإيقاع الانفتاح على دمشق. الهجوم لا يغيّر السياسات من تلقاء نفسه، لكنه يبطئها ويمنح المتحفّظين مادة إضافية للتريّث.
هكذا، تبدو افتتاحية "النبأ" والهجوم الذي تلاها وجهين لاستراتيجية واحدة: إعادة سوريا إلى قلب خطاب الصراع العالمي، لا عبر السيطرة على الأرض، بل عبر التشكيك في أهلية الدولة الجديدة وقدرتها على تثبيت نفسها شريكاً موثوقاً. وفي المقابل، تكشف ردود الفعل أن المعركة لم تعد أمنية فحسب، بل معركة تعريف: تعريف الخطر، وتعريف الشريك، وتعريف اللحظة السورية نفسها.

 

في هذه اللحظة بالذات، لا يختبر "داعش" قوة السلاح بقدر ما يختبر هشاشة المعنى. والمعركة المقبلة لن تُحسم فقط في البادية، بل في قدرة سوريا الخارجة من النظام على ضبط روايتها، وإدارة شراكاتها، ومنع التنظيم من تحويل كل ضربة محدودة إلى سؤال مفتوح عن مستقبل البلاد وموقعها في العالم.

 

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق