نعرض لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى المقال الاتي:
الميلاد في مرجعيون... حين يولد الضّوء في قلب العاصفة - وضوح نيوز, اليوم الاثنين 15 ديسمبر 2025 10:45 صباحاً
فاتن كحيل
حلّ عيد الميلاد المجيد عام 2025 في قرى مرجعيون وبلداتها في ظرف استثنائي فرضته تداعيات الحرب الّتي شهدها الجنوب اللّبناني. فكان هذا العيد مختلفاً في شكله ومضمونه، حاملاً معه ذاكرة الألم إلى جانب محاولات النّهوض والتمسّك بالحياة. لم يكن الميلاد هذا العامّ مجرّد مناسبة دينيّة أو احتفاليّة، بل محطّة انسانيّة واجتماعيّة عكست واقع المنطقة في مرحلة ما بعد الحرب، حيث اختلطت مشاعر الفرح الحذر بالحزن العميق، والرّجاء بالقلق، في مشهد يعكس حجم المعاناة كما يعكس إرادة الصّمود.
في مرجعيون، البلدة التي اعتادت أن تستقبل عيد الميلاد بأجراس عالية وشوارع مضاءة وأطفال يركضون في ساحاتها القديمة، يأتيها العيد هذا العام محاطاً بهالة مختلفة. هالة تجمع بين الرجاء والخوف، وبين الرّغبة في الاحتفال والحاجة إلى الحذر. فالاعتداءات الإسرائيلية التي طاولت أطراف البلدة والقرى المجاورة ألقت بظلالها الثّقيلة على أجواء الميلاد، وجعلت من كلّ تفصيلة صغيرة حدثاً مقاوماً في ذاته. ومع ذلك لم تتراجع مرجعيون عن طقوسها، بل أعادت تشكيلها بما يناسب اللّحظة، وكأنّ العيد يصبح أكثر ضرورة كلّما اشتدّت الصّعاب.
مع اقتراب عيد الميلاد هذا العام، تستعيد قرى مرجعيون وبلداتها (القليعة، دير ميماس وغيرهما...) ملمحها الشتوي الدافئ رغم كلّ ما شهدته بلدات الجنوب من اعتداءات اسرائيليّة في الأشهر الماضية. الفكرة الأولى التي تفرض نفسها هنا أنّ البلدة "مرجعيون" الّتي طالما شكّلت نموذجاً للتعايش والصمود، اختارت أن تواجه القلق بإصرارعلى الحياة، فبدأت باستعداداتها الميلادية مبكراً كما لو أنّها تقول إن الأعياد لا تلغى حتى في أصعب الظّروف.
عادت مظاهر الزّينة الميلاديّة إلى الظّهور بشكلها المعتاد، ولكن بصورة أكثر تواضعاً، بحيث أُعيد تزيين السّاحات العامّة والكنائس بأشجار الميلاد والأضواء التقليديّة، في إشارة واضحة إلى الرغبة في استعادة الحياة الطّبيعيّة وعدم الاستسلام لآثار الحرب. ورغم بساطة الزينة مقارنة بالسّنوات التي سبقت الحوادث، إلاّ أنّها حملت رمزيّة كبيرة، إذ بدت كأنّها إعلان جماعي عن بقاء المنطقة حيّة رغم الجروح، وعن تمسّك أهلها بثقافة الفرح حتّى في أقسى الظّروف.
الأطفال الّذين افتتحوا موسم الفرح بإنارة الشجرة الكبيرة في وسط البلدة، شعروا للمرّة الأولى منذ أشهر بأنّهم في مساحة آمنة تشبه طفولتهم.
الكنائس بدورها لعبت دوراً محوريّاً في إعادة طمأنة السّكان. فمع بدء الصّلوات والتحضيرات للقداديس، ارتفعت الأناشيد الميلاديّة داخل كنيسة القديس جاورجيوس، وامتلأت القاعات المجاورة بمتطوعين يجهزون نشاطات للأطفال وعائلات محدودة الدخل. ويؤكد الكهنة أنّ الاحتفال هذا العام ليس مجرّد طقس روحي، بل رسالة واضحة بأنّ مرجعيون قادرة على النهوض من جديد مهما اشتدّ الضّغط عليها. حتّى الزّوار الذين اعتادوا القدوم من القرى المجاورة عادوا تدريجاً، ما أعاد الحركة التجارية إلى محلات الحلوى والهدايا.
أمّا على المستوى الاجتماعي، فقد برزت خلال موسم الميلاد روح تضامن واضحة بين أبناء المنطقة، حيث تكاتفت الجهود الفرديّة والجماعيّة لمساندة العائلات المتضرّرة، سواء عبر مبادرات خيريّة، أو عبر أنشطة رعويّة وإنسانيّة هدفت إلى إعادة الأمل، خصوصاً للأطفال الذين عاشوا تجربة الحرب بكلّ قسوتها. وشكّل هؤلاء الأطفال محور الاهتمام الأساسي، في محاولة لإعادة رسم الابتسامة على وجوههم وترسيخ الشّعور بالأمان والانتماء.
وعلى رغم استمرار التوتر الأمني، تبدو البلدة حريصة على خلق أجواء مريحة. المقاهي الصّغيرة الرمادية اللون تفتتح أمسيات موسيقيّة هادئة، والبيوت الحجريّة القديمة تزيّن شرفاتها بلمبات صفراء ونجوم مضيئة، بينما تتداول العائلات قصص السّنوات الصّعبة على أمل ان تكون هذه المرحلة بداية انفراج. ويبدو واضحاً أنّ سكّان قرى مرجعيون وبلداتها لا يريدون أعياداً خافتة، بل أجواء تعيد إليهم ذكرى الأعياد التي عرفوها قبل أن تصبح بلداتهم واجهة التوتر.
الميلاد في قرى مرجعيون وبلداتها هذا العام ليس مجرّد مناسبة دينيّة، بل فعل مقاومة يومي بوجه الخوف. هو بمثابة رسالة صامتة لكنّها قويّة، مفادها أنّ الحرب، مهما خلّفت من دمار، لم تستطع أن تطفئ نور الإيمان ولا إرادة الحياة لدى أبناء هذه المنطقة. البلدة، التي عانت كما عانت كل القرى الجنوبيّة، قرّرت أن تستعيد صوت الأجراس بدل أصوات الانفجارات، وأن تنحاز للنور بدل العتمة. ومع اكتمال التحضيرات وعودة الاحتفالات إلى شكلها الطبيعي، يعلو شعورٌ جمعيّ بأن الأمل يمكن أن يعود تدريجاً، وأنّ الجنوب قادر على الاحتفال حتّى في عزّ الجروح، لأّنّ العيد في نهاية المطاف هو مساحة عنادٍ جميل في وجه كلّ ما يحاول إطفاء الفرح.







0 تعليق