نعرض لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى المقال الاتي:
ظلمات ثقافة الخضوع - وضوح نيوز, اليوم الاثنين 15 ديسمبر 2025 10:45 صباحاً
الأب صلاح أبوجوده اليسوعيّ
أستاذ في جامعة القديس يوسف
"إنّ ما يمثّل نموذجًا للنظام الشموليّ ليس النازيّ الملتزم أيديولوجيًّا، بل الإنسان الذي فقد معايير التمييز بين الحقيقة والزيف" (حنة أرندت)
في تحليلات باتت مرجعًا عالميًّا لشرح ثقافة الخضوع في الأنظمة ما بعد الشموليّة، يصف الكاتب والرئيس التشيكيّ السابق فاتسلاف هافيل، الآليّة التي تؤول بالفرد إلى أن يصبح طوعيًّا حارس عبوديّته الخاصّة. تتّسم تلك الأنظمة بركود بيروقراطيّ ما عاد يعتمد على مركزيّة قائد كاريزميّ، ولا على تشدّد أيديولوجيّ، بل على استقرار شبكة إجراءات آليّة، وعلى تنفيذ ميكانيكيّ لجملة طقوس رمزيّة فارغة، أي خالية من كلّ معنى. فالأيديولوجيا تتحوّل إلى مجرّد ممارسة إداريّة شكليّة، وتُستبدل السيطرةُ على السكّان بواسطة نشر الرعب بطريقة مباشرة، بضغط اجتماعيّ معمّم، يضمن استمرار النظام القائم بفضل رقابة ذاتيّة جامدة.
في الأنظمة القوميّة العربيّة التي طغى عليها طابع عسكريّ، مثل النظام السوريّ السابق، كانت ثقافة الخضوع مركّبة، تمزج بين الخضوع المتأصّل الذي وصفه هافل في الأنظمة ما بعد الشمولية، والخوف من السلطة الذي تُغذّيه ثقافة تمجيد الزعيم الذي يرأس نظامًا لا يُمسّ. وقد اعتمدت تلك الأنظمة على أجهزة قمعيّة قويّة وهمجيّة على صلة بأجهزة المخابرات التي أمّنت مراقبة شديدة تشمل مختلف قطاعات المجتمع، بل والحياة الشخصيّة أيضًا. وقد أنتج التهديد الدائم باعتقالات تعسفيّة واختفاءات المدنيّين القسريّة واستخدام العنف خارج القوانين، طاعةً قسريّة مبنيّة على توقّع العقاب في أيّ وقت، وهي جملة ممارسات تندرج ضمن الهيمنة التقليديّة من خلال تخويف الناس وإخضاعهم لامتثال يبقى ظاهريًّا.
ومع مرور الوقت، اقترنت ثقافة الخوف المؤسسيّة هذه بثقافة امتثال أشدّ خطورة. فقد أصبحت سلوكيّات كثيرة روتينيّة ومستبطنة، مثل الرقابة الذاتيّة في المحادثات العامّة والخاصّة على السواء، وتبنّي الرموز والشعارات والعلامات التي تدلّ على ولاء شخصيّ مُطلق لشخص الحاكم الزعيم ونظامه، وتجنّب القيام بأيّ مبادرة يمكن أن تفسَّر بأنّها تحدٍّ للزعيم والنظام أو تهديد لهما. وباختصار، لم تعد تندرج هذه الممارسات ضمن نتائج الإكراه المباشر فحسب، بل ضمن مجموعة معايير اجتماعيّة تُنظِّم الحياة اليوميّة وتُحدِّد طرق التصرّف والتعبير.
لقد أظهرت تلك المجتمعات سمات ثقافة الخضوع التي حدّدها هافيل، حيث التكيّف مع النظام بات ردّ فعلٍ مدمجٍ اجتماعيًّا، يتجاوز مجرّد موقف تلقائيّ إزاء تهديد صريح. ويُفسِّر هذا الخوفُ المؤسَّس والامتثالُ المستبطن قدرةَ الأنظمة العسكريّة على الاستمرار. ذلك أنّ الإكراه العنيف أصبح عماد النظام وحالة دائمة حاضرة في ذاكرة الناس، في حين ضمنت الرقابة الذاتيّة الاجتماعيّة إعادة إنتاج السلوكيّات اليوميّة المتوقّعة، من دون ثمّة حاجة دائمة إلى استخدام القوّة. فكان أن بدا الخضوع ظاهرةً يتداخل فيها التسلّط القسريّ وإدماج معايير النظام اجتماعيًّا.
في لبنان، يتميّز النظام الطائفيّ بآليّة منحرفة تولّد خضوعًا مزدوجًا للبنانيّين. فعلى خلاف ما يجري في ظلّ سلطة مركزيّة واحدة، تُكره هذه الديناميّةُ اللبنانيّين، من جهة، على الخضوع لأوليغارشيّات طائفيّة متعدّدة، تحافظ على قبضتها على مجتمعاتها الطائفيّة من خلال توظيف الخوف من الآخر؛ ومن جهة ثانية، ترتكز على تفتيت الخير العامّ، حيث يبدو بقاء كلّ طائفة "الخير" الأسمى في إطار ممارسةٍ سياسيّة تسعى بشكل علنيّ أو مبطّن للقضاء على الآخر أو إخضاعه. وفي هذا السياق، يبرّر الزعماء الطائفيّون، وهم نخب محصّنة لا تخضع لأيّ مساءلة أو محاسبة، سلطتَهم بحجّة قسريّة، مقدِّمين أنفسهم بصفتهم ضمانة لا بديل عنها لبقاء طوائفهم. وبالتالي، تُجرَّم فورًا أيُّ انتقادات توجّه إلى الزعيم، وتُصوَّر على أنّها خيانة تخدم الخطر الخارجيّ الذي يُحدق، لا بمصالح الطائفة فحسب، بل بوجودها أيضًا. وهكذا تصبح المعارضة لمسار الطائفة التاريخيّ الذي يضمنه الزعيم صعبة، ويكتسب الخضوع صفة تضامن ضروريّ ووجوديّ.
وعلى الرغم من أنّ النظام يُفهم تقاسم السلطة بين زعامات الطوائف، فإنّه يُكرِّس بُنى سلطويّة داخل كلّ طائفة، الأمر الذي يُنتج أفرادًا أسرى طوائفهم، ويؤدّي إلى شلل جماعيّ مُقنَّع بـ"توافق" سياسيّ تحت شعار المحافظة على السلم الأهليّ وخدمة خير الجميع، مُستبدلاً النقاش الوطنيّ الموضوعيّ بالمساومة الطائفيّة.
أمّا التعدديّة السياسيّة التي نجدها داخل كلّ طائفة، فهي لا يمكنها أن تزيل ثقافة الخضوع البنيويّ، بل تعمل بالأحرى كآليّة تُبقي التنافسَ محصورًا ضمن الأطر التاريخيّة الموروثة. فمختلف التيّارات داخل الطائفة الواحدة، على الرغم من تنافسها ونزعتها إلى إلغاء بعضها بعضًا، لا تضع الإطار الطائفيّ نفسه موضع تساؤل، بل تقتصر على التنازع على تمثيل الطائفة. ويُفضي هذا التنافسُ الداخلي إلى ما يُعرف بـ"المزايدة الهويّاتيّة"، إذ ينصرف كلُّ فريق من الأفرقاء المتنافسين إلى الدفاع على نحوٍ أشدّ صرامة عن "مصالح الطائفة" تجنّبًا لاتهامه بالخيانة أو المساومة من قبل خصومه الداخليّين.
إضافة إلى ذلك، يتكرّس الخضوع من خلال إعادة إنتاج بُنى السلطة، حيث تنسخ التيّارات المتنافسة في الغالب نماذج الزعامة نفسها وطرق عملها، مبقية اللبنانيّ أسير منطق التبعيّة الزبائنيّة بدلاً من اتّباعه منطق الاستقلاليّة. وتتوطّد هذه الديناميّات في أثناء الأزمات أو التهديدات المتوقّعة أو الـمُتصوَّرة أو الحروب، أي تلك الظروف التي تُعلِّق مؤقّتًا الانقسامات داخل الطائفة الواحدة، وتُجبر أفراد الجماعة على الالتفاف الأوثق حول زعاماتهم، معزّزة بذلك الخضوع الجماعيّ التلقائيّ.
وفي ظلّ غياب بديل سياسيّ قويّ ووطنيّ عابر الطوائف يحظى بثقة الناس، يبقى خيار اللبنانيّين محصورًا حتمًا في هذا الإطار. وحتّى عندما يُعبِّر الناس عن سخطهم ومعاناتهم من السياسات الطائفيّة المؤلمة وأحيانًا الكارثيّة، فإنّهم يصوّتون غالبًا في الانتخابات النيابيّة والبلديّة والنقابيّة وغيرها، بدافع البرغماتيّة بغية حماية "الحقوق الطائفيّة" أو بدافع الاستسلام والرضوخ. أمّا النتيجة فهي مفارقة لافتة، ذلك بأنّ هذه التعدديّة تولّد داخل كلّ طائفة "وهم الحريّة"، من خلال إتاحة الاختيار بين شخصيّات طائفيّة مختلفة، في حين أنّ واقع الخضوع يبقى قائمًا ضمن الإطار المرسوم، بحيث أنّ الفرد يجد نفسه في صدد الاختيار بين عدّة سجّانين داخل السجن نفسه.
وثمّة مفارقة قاسية تسم العنف السياسيّ الرمزيّ تجدر الإشارة إليها، ألا وهي تحوّل الخضوع إلى فضيلة وطنيّة. يتّصل الأمر بعمليّة تحوّل نفسيّ-اجتماعيّ مثير للانتباه، تعيدُ فيها الفئات الأشدّ استغلالاً تفسير تبعيّتها بوصفها تضحية نبيلة من خلال انقلاب رمزيّ. وبكلام آخر، يُعاد تصوير الخضوع المفروض على أنّه اختيار طوعيّ وفضيلة أخلاقيّة ووطنيّة، ممّا يساهم في تبرير وضعيّة الهيمنة من دون تغيير واقعها الفعليّ. وتُعزَّز هذه الآليّةُ بالاستثمار الهويّاتيّ الكامل، حيث إنّ انتقاد الزعيم من شأنه أن يُفضي إلى تقويض رأس المال الرمزيّ الوحيد لدى المنقادين إلى الطائفيّة. وعلى الصعيد النفسيّ، يعمل هذا الإنكار كآليّة دفاع إزاء ألم الاعتراف بالاستغلال أو الخيانة. وفضلاً عن ذلك، تُعفي خطابات المؤامرة الخارجيّة الزعيمَ من تحمّل مسؤوليّاته. ويؤدّي منطق الحصار الدائم هذا المقترن بغياب بديل فعليّ، إلى الخلط بين التفكير النقديّ والخيانة السياسيّة الانتحاريّة، مُظهرًا كيف ينتهي الأمر بالخاضعين إلى تبنّي مقولات المهيمنين.
وممّا لا شكّ فيه أنّ السبيل الوحيد لكسر هذه التبعيّة يكمن في تغذية ثقافة ديموقراطيّة تَنبتُ بذورها فعلاً داخل المجتمع اللبنانيّ. ومن الضروريّ، في الاتّجاه عينه، تعزيز الاستقلاليّة المواطنيّة، وتنظيم بدائل سياسيّة عابرة الطوائف وذات مصداقيّة. ومن شأن ذلك أن يسمح للنقد البنّاء المهمّش حاليًّا وأحيانًا الـمُجرَّم، بأن يتحوّل إلى قوّة سياسيّة تحرريّة.







0 تعليق