يُصَدَّقُ الكاذب! - وضوح نيوز

اخبار جوجل 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

نعرض لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى المقال الاتي:
يُصَدَّقُ الكاذب! - وضوح نيوز, اليوم الخميس 18 ديسمبر 2025 03:30 مساءً

في زمنٍ مرتبكٍ تختلط فيه المقاييس، لم يعد الصدق فضيلةً كافية للنجاة، ولا الحقيقة طريقًا مضمونًا للتصديق. انقلب المشهد رأسًا على عقب؛ الكاذب في الصدارة، والصادق في قفص الاتهام. يُستقبل الزيف بالتصفيق، وتُقابل الحقيقة بالريبة، حتى غدا الصدق تهمةً تحتاج إلى تبرير. هنا، لا يُكذَّب الصادق لأنه أخطأ، بل لأنه أبى أن يتقن لعبة الأقنعة، ورفض أن يُجيد فنّ التلوّن والنفاق!
هذه الحالة ليست عارضًا اجتماعيًا مؤقتًا، بل تحوّلًا فلسفيًا عميقًا في وعي الإنسان المعاصر. حين تُكافأ الأقنعة، ويُحاصَر الصفاء، وتغدو المصدقية عبئًا ثقيلًا على أصحابها، بينما يصبح الادعاء عملةً رائجة في سوق العلاقات والمصالح. في هذا المناخ المشوَّه، لا يعود السؤال: من قال الحقيقة؟! بل يتحول إلى سؤال أكثر خطورة: من قال ما نحب سماعه؟ ومن أتقن صياغة الوهم بما يُرضي أهواءنا؟!
يُصدَّق الكاذب لأنه يعرف كيف يبيع الوهم في غلافٍ أنيق، ويُحسن مخاطبة الهوامش لا العقول. يقدّم الحقيقة مجتزأة، أو ملوّنة، أو مقلوبة، لكنها مريحة، سهلة الهضم، لا تُربك الضمير ولا تُقلق القناعات الكسولة. أما الصادق، فيأتي بالحقيقة عارية، صادمة أحيانًا، غير قابلة للتجميل، فيُتَّهم بالتلون ، أو يُوصم بسوء النية، أو يُصنَّف عدوًا للانسجام الإجتماعي . وهكذا، تنقلب المعادلة الأخلاقية؛ فيُدان الصدق لأنه صادق، ويُحتفى بالكذب لأنه أقل إزعاجًا!
ومع تراكم هذا السلوك، تتشكل ثقافة عامة تُعيد تعريف النجاح والمكانة. فيعلو شأن «الرويبضة»؛ أولئك الذين يتحدثون في شؤون العامة بلا علم، ويتصدرون المواقع بلا حكمة، ويصنعون لأنفسهم شرعيةً زائفة عبر الخطاب المزيّف لا القيمة الحقيقية. إنهم أبناء بعض بيئةٍ صدّقت الكاذب، فصار الكذب مؤهلًا للمكانة، والتزييف جواز مرور إلى النفوذ. عندها، لا يُقاس الرجال بمبادئهم، بل بقدرتهم على المناورة، ولا تُمنح المكانة للأكفأ، بل للأكثر نفاقًا وقدرةً على التضليل!
وفي خضم هذا العبث القيمي، تبرز حقيقة أخلاقية لا تحتمل التأويل: الشيخ على قومه شيخٌ بأخلاقه، لا بنفاقه، ولا بتقلب سلوكه. فالمكانة ليست لقبًا يُدّعى، ولا وجاهةً اجتماعية تُنتزع بالصوت العالي أو الادعاء الفارغ، بل مسؤولية أخلاقية عميقة تُمنح لمن صدق مع نفسه قبل أن يطلب تصديق الآخرين. من فقد أخلاقه، سقطت عنه مشروعية المكانة، ولو التفّ الناس حوله زمنًا؛ فالزيف قد يصنع ضجيجًا، لكنه لا يصنع قيمة، وقد يخلق ظاهرة، لكنه يعجز عن بناء قدوة!
إن الكذب، حين يتحول من سلوكٍ فردي إلى ممارسةٍ جماعية، لا يدمّر شخصًا بعينه، بل يهدم الأساس الذي يقوم عليه المجتمع كله: الثقة. فالعلاقات الإنسانية لا تُبنى بالقوة ولا بالمصالح وحدها، بل بالصدق المتبادل. وحين يتآكل الصدق، يسود الشك، ويغيب الأمان، ويصبح كل شيء قابلًا للتشويه، من أبسط العلاقات الاجتماعية إلى أعقد القضايا العامة. والتاريخ شاهدٌ لا يُكذّب: فبعض المجتمعات التي تصالحت مع الكذب، وتسامحت مع الزيف، فقدت بوصلتها الأخلاقية، ثم فقدت هويتها، ثم بدأت بالانهيار من الداخل!
ومع ذلك، ورغم هذا المشهد القاتم، يظل الصدق — في غربته — القيمة الأكثر ثباتًا. قد يخسر الصادق جولة، وقد يدفع ثمن مواقفه إقصاءً أو تشويهًا، لكنه لا يخسر ذاته. وقد يُبعد اليوم عن مكانته ، لكنه يبقى شاهدًا على الحقيقة حين يسقط الزيف، وحين تنكشف الأقنعة!!
الصدق ليس مجرد خُلُقٍ اجتماعي، بل شجاعة فكرية، وموقف وجودي، واختيار أخلاقي واعٍ في عالمٍ يُغري بالتنازل عن القيم!
إن استعادة التوازن الأخلاقي لا تبدأ فقط بمحاربة الكاذب؛ فالكاذب سيبقى موجودًا ما دام هناك من يصفّق له. لكنها تبدأ بإعادة الاعتبار للصدق، وتربية الوعي الجمعي على التمييز بين الصوت العالي والصوت الصادق، بين من يبيع الوهم ومن يتحمّل كلفة الحقيقة. فحين نكفّ عن تصديق الكاذب، ونتعلّم الإصغاء للحقيقة مهما كانت مُرّة، نكون قد وضعنا أقدامنا على أول الطريق نحو مجتمعٍ أكثر وعيًا، وأكثر إنسانية. وأكثر واقعية!!
ودائمًا ليست مأساة عصرنا أن الكاذب موجود؛ فالكذب قديم قِدم الإنسان، بل المأساة الحقيقية أن الكاذب يُصدَّق، وأن الصادق يُقصى. وليست البطولة أن تقول ما يُرضي الناس، بل أن تقول ما ينبغي قوله، ولو وقفت وحدك، فالله معك!!
وليت قومي يعلمون!!

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق