من وهج الخطوبة إلى صمت الزواج - وضوح نيوز

النشرة (لبنان) 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

نعرض لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى المقال الاتي:
من وهج الخطوبة إلى صمت الزواج - وضوح نيوز, اليوم الأربعاء 3 ديسمبر 2025 10:55 صباحاً

ناهيا أبو ابراهيم - خبيرة علاقات زوجية وتنمية ذاتية

 

 

الحب في بداياته يشبه شرارة تندلع في مساحة من العاطفة المتحفّزة، في مرحلةٍ تسكنها الوعود الوردية وتلمع فيها الصور المثالية التي يُظهر خلالها كل طرف أجمل ما لديه. ففي الخطوبة، يتغذّى القلب على الخيال أكثر مما يتغذّى على الواقع، وتتضاعف توقعات كلٍّ من الشريكين عن الآخر، حتى يغدو كلٌّ منهما مرآةً تعكس صورة متقنة لا يراها إلا من يحب. وما إن ينتقل العروسان إلى الحياة الزوجية حتى يبدأ هذا الخيال بالانحسار، وتتقدّم الحياة اليومية بمتطلباتها ومسؤولياتها، فيكتشف الطرفان أن الحب الذي بدا سهلاً في بدايته أصبح يطلب منهما نضجاً أكبر وفهماً أعمق لطبيعة الإنسان الذي يعيش إلى جوارهما.

pexelstimamiroshnichenko5336907_095739.jويحدث التحوّل العاطفي غالباً في صمت؛ فالمشاعر لا تتغير فجأة، بل تنزلق ببطء من حرارة اللقاء إلى برودة الروح، لأن ما كان في مرحلة الخطوبة مبنياً على الصورة يصبح بعد الزواج محكوماً بحقيقة الإنسان بما فيها من تناقضات وجروح وخبرات ماضية. كثيرون يدخلون العلاقة وهم يظنون أن الماضي قد طواه الزمن، لكن الجروح القديمة تستيقظ حين تشعر بالأمان العاطفي أو حين تتعرض لموقف يشبه جرحاً سابقاً، فتنفجر في شكل حساسية زائدة، أو غيرة غير مبررة، أو انسحابٍ مفاجئ من الحوار والقرب. وهكذا يتداخل الماضي بالحاضر، فيختلط الواقع بما لم يُشفَ بعد، فتبدأ أولى طبقات الفتور بالتشكّل.
ومع تقدّم الأيام، تتحول الأدوار بين الزوجين من لحظات تسكنها الرومانسية إلى واجبات يومية لا تنتهي. فينشغل كل منهما بدوره - هذا يعمل، وتلك تهتم بالبيت، وذاك يلاحق الالتزامات - حتى يتراجع حضور القلب في العلاقة لصالح منطق المهمات. تتسلل لغة الواجب شيئاً فشيئاً على حساب لغة الود، فيضيع ما كان عفوياً وسهلاً في تفاصيل يومية تلتهم الحضور العاطفي من دون قصد. وهنا يبدأ ما يشبه الانفصال الهادئ: ليس صراعاً، بل صمت طويل يغطّي على ما لم يُقل.
ثم تأتي الخلافات الصغيرة التي يتجاهلها الطرفان على أمل أن تُنسى، لكنها لا تُنسى. فهي تتراكم في الأعماق كطبقات رقيقة من الغبار، لكنها مع الوقت تتحول إلى جدار نفسي يفصل بين الروحين. وفي كل مرة يُهمل فيها الحوار، أو يُكبت فيها ضيق بسيط، يصبح من الأصعب العودة إلى المساحة القديمة التي كانت آمنة وشفافة. ومع مرور الزمن، يصبح الانزعاج الداخلي أقوى من القدرة على إظهار الحب، فتظهر أولى علامات البرود: نظرة غائبة، كلمة مقتضبة، أو رغبة متراجعة في الاقتراب الجسدي.
وعندما يفقد أحد الطرفين شعور التقدير، يبدأ الحافز العاطفي بالانطفاء. فالقلب يحتاج إلى كلمة تشجعه، أو لمسة تعترف بوجوده، أو ملامح إعجاب يشعر معها أنه مرئي ومهم. وإن لم يجدها، ينسحب في صمت، ويبدأ الجسد بدوره في التعبير عمّا لم يُقل بالكلمات. فالمسافة النفسية تتحوّل تلقائياً إلى مسافة جسدية، وتبرد العلاقة تدريجاً حتى يشعر كل طرف أنه يعيش مع الآخر في بيت واحد لكن في عالم مختلف.
غير أنّ هذا التبدّل ليس قدراً محتوماً ولا نهاية مكتوبة، بل دعوة إلى إعادة النظر في طريقة التواصل وإحياء ما خمد. فالعلاقة تستعيد دفئها حين يعود كلٌّ من الشريكين إلى رؤية الآخر كإنسان قبل أن يكون دوراً. حين يسأل أحدهما عن مشاعر الآخر، عمّا يقلقه، عمّا يحلم به، كأنهما يلتقيان للمرة الأولى من جديد. وهذا اللقاء الداخلي لا يتم إلا بحوار عميق، بلا دفاعية ولا خوف، يُقَال فيه ما يؤلم وما يُحتاج، ويُسمَع فيه ما لم يُسمع منذ زمن.
وتستعيد العلاقة تنفّسها أيضاً حين تُنعَش التفاصيل الصغيرة التي طاولها الإهمال  رسالة قصيرة، نظرة امتنان، ضحكة مشتركة، أو جلسة صادقة من دون هواتف ولا ضجيج. فالعاطفة لا تحتاج إلى تغييرات ضخمة كي تعود، بل إلى لحظات ناعمة تُشعر كل طرف بأن الحب ما زال ممكناً. وفي بعض الأحيان، يحتاج الزوجان إلى يد خبيرة تعيد ترتيب اللغة بينهما، سواء عبر مختص بالعلاقات أو معالج نفسي، لأن بعض التعقيدات يتجاوز ما يمكن إصلاحه بينهما وحدهما.
وحين يفهم كل طرف لغة الحب التي يحتاجها الآخر، يصبح العطاء أكثر دقة، والاحتضان أكثر تناغماً. فالحب ليس قالباً واحداً، بل خريطة متنوعة من الاحتياجات: هناك من يحب بالكلمة، ومن يحب بالوقت، ومن يحتاج اللمس أو التقدير أو المشاركة اليومية. وما إن يكتشف كل منهما لغة الآخر، حتى يسهل أن يعود الحب إلى مساره الطبيعي.
ويبقى الأهم أن يستعيد كل فرد علاقته بنفسه. فالعلاقة لا يمكن أن تتنفس عبر طرف مُنهك أو فاقد لشغفه الشخصي. وكلما أعاد الإنسان إحياء شغفه، واقتطع من وقته مساحة لذاته، ازداد اتزانه الداخلي، وتحرّر من تحميل الشريك دوراً لا يستطيع أن يؤديه.
في النهاية، الحب لا يموت بعد الزواج… بل يدخل مرحلة نضج. وما يحدّد مصيره ليس لحظة الفتور، بل الطريقة التي يختار فيها الطرفان أن يواجهاه. فالذين يعيدون إحياء الدفء هم الذين يرون في العلاقة مشروعاً متجدداً، يحتاج إلى رعاية، وإلى كلمة تُرويه، وإلى عناية لا تنقطع. فالعلاقة تموت حين تُهمل، وتزدهر حين تُسقى. وكل خطوة صغيرة نحو الشريك هي في الحقيقة خطوة كبيرة نحو حياةٍ زوجية تُبنى على الوعي لا على المصادفة، وعلى القرب لا على الانسحاب.

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق