نعرض لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى المقال الاتي:
90,944 متراً مربعاً من الأراضي الحرجية المحروقة تحوّلت عمراناً خلال خمس سنوات وغياب تطبيق القانون يشرّع التعديات - وضوح نيوز, اليوم الاثنين 22 ديسمبر 2025 10:55 صباحاً
غابة تختفي، أرض تتعرّى، ومساحات تتبدّل. في لبنان، لم تعد الحرائق مجرّد كارثة طبيعية. كثير منها بات جزءاً من لعبة أكبر… لعبة تبدأ بلهيب سريع، وتنتهي بإسمنت يرتفع مكان الأشجار والأحراج، في مشهد يعيد طرح الأسئلة الأكثر حساسية: كيف تُستغل الأراضي المحروقة في ظل غياب الرقابة؟ ومن المستفيد؟
استناداً إلى البيانات وشهادات الخبراء، يكشف هذا التحقيق أنّ جزءاً كبيراً من الأراضي التي احترقت خلال السنوات الماضية جرى تحويلها إلى مشاريع عمرانية، في مخالفة صريحة للقانون، وتحديداً القانون الذي يحمل الرقم 92/2010، الذي يمنع تغيير وجهة استخدام الأراضي المتضررة من الحرائق لمدّة لا تقلّ عن عشر سنوات.
قبل التعمّق في ملف الحرائق المفتعلة، يشرح الخبير في إدارة الغابات خالد طالب العناصر الثلاثة، التي تتسبّب في اندلاع أيّ حريق، وتتحكم بسلوكه وشدته، وهي (الفيول، الطوبوغرافيا، الطقس). وينطلق من العنصر الأول: الفيول الطبيعي داخل الغابات، أي الكتلة الحيوية التي تشكّلها الأشجار والنباتات، والتي تعتبر اليوم في لبنان الأكثر كثافة منذ عقود.
يعترف طالب أن "لبنان يعاني اليوم من تخمة غير مسبوقة في الكتل الحرجية المشبعة بالموادّ القابلة للاحتراق. فقد أدّى تراجع نشاط الرعي داخل الغابات إلى نمو طبقات كثيفة من الأعشاب الجافة، التي تشكّل - في أغلب الأحيان - الشرارة الأولى لأيّ حريق". يضاف إلى ذلك إهمال مساحات واسعة من الأراضي الزراعية، خاصة تلك المتاخمة للأحراج، ما يزيد من هشاشة المشهد البيئي، ويُفاقم خطورة اندلاع الحرائق.
"وقود حرجي"
يخالف الخبير السردية الرائجة حول التصحر وتراجع الكثافة الحرجية، مشيراً إلى أن لبنان يشهد في السنوات الأخيرة زيادة في كثافة الغابات مقابل ازدياد يباس الأشجار، ولا سيما الصنوبر والسنديان، وهو ما يضعف قدرة الحرج على المقاومة.
يمكن الاستشهاد هنا بحرج حريصا، الذي شهد جفافاً واسعاً أصاب أشجار السنديان؛ فحين تجفّ الأشجار ينخفض محتوى الرطوبة فيها إلى حدّ كبير، مما يحوّلها إلى مادة شديدة القابلية للاشتعال، ويُسرّع انتشار النيران. هذا ما يفسّر السرعة اللافتة التي تتمدد بها الحرائق في لبنان خلال السنوات الأخيرة، وصعوبة السيطرة عليها.
ينطلق خالد طالب من مفهوم "الوقود الحرجي" الذي يعتبره العامل الوحيد القابل للإدارة في معادلة الحرائق، خلافاً للطوبوغرافيا والطقس اللذين يخرجان عن السيطرة. وعلى الرغم من أن تخفيف هذا الوقود يبدو مهمة بسيطة نظرياً، فإنه يزداد تعقيداً في الواقع نتيجة فقدان اليد العاملة، التي كانت تتولى هذه الأعمال بسبب قرارات عشوائية وغياب سياسات واضحة.
من هنا تبرز أهمية دور الوزارات في تنظيم رخص العمل داخل الغابات وتسهيلها، لأن التضييق غير المدروس على الإدارة الحرجية يعني عملياً، كما يقول، أنه "كلما بالغنا في حماية الغابات بهذه الطريقة، فإننا بذلك نمهّد لحرائق أكبر".
الشق الأخطر: تغيير وجهة استخدام الأرض
"90 في المئة من الحرائق في لبنان مفتعلة"، وفق ما يؤكد طالب، وهي تنطلق من سببين رئيسيين: الأول هو الإهمال، وهو النسبة الأكبر، أما الثانية، فهو الفعل البشري المتعمد. وفي الحالة الأخيرة، تُستصلح الأراضي المحروقة لاحقاً - في أغلب الأحيان - وتُغيَّر وجهة استخدامها، وهو ما يعتبره طالب مؤشراً شديد الخطورة.
ويرى أن "تغيير وجهة استخدام الأراضي يعني عملياً خسارة الغابات إلى الأبد. فالأرض المحروقة، إذا تُركت من دون تدخل، تستعيد شكلها الطبيعي تدريجياً، إذ تعود النباتات العشبية والأشجار للنمو. وتستغرق هذه الدورة الحيوية ما بين 8 و10 سنوات في المتوسط، وقد تمتد إلى خمسين عاماً في حالة أنواع معيّنة مثل الأرز واللزاب. لذلك، فإن أي تدخل يهدف إلى إعادة استخدام الأراضي بعد احتراقها يوقف هذه الدورة ويقضي على الغابة بشكل نهائي".
منطقة بزال قبل أن تشهد تغييراً في الغطاء النباتي بين 2020 و2025 (صورة من الأقمار الاصطناعية- خالد طالب)
منطقة بزال بعد تغيير الغطاء النباتي خلال فترة 2020 و2025 (صورة من الأقمار الاصطناعية- خالد طالب)
يضيف طالب أن ما حصل في عكار يقدّم مثالاً واضحاً على هذه الظاهرة، وإن كان بشكل محدود، حيث تركزت معظم التعديات على الأراضي المحروقة من دون ظهور نشاطات تجارية واضحة. ومع مرور الزمن، ينسى الناس أن هذه المساحات كانت غابات محترقة، ما يسهّل استغلالها لاحقاً، وفق مصالح وأهواء معينة.
وتزداد خطورة الوضع مع غياب المستندات العقارية الدقيقة في العديد من مناطق عكار، حيث لا يملك الأهالي سوى "علم وخبر" من مختار القرية للعمل في الأرض، في ظل غياب دور فعّال لوزارة المالية التي يفترض أن تتولى استرداد أملاك الدولة وإجراء مسح عقاري جديّ لتثبيت الحدود ومنع التعديات.
منطقة رحبة قبل تغيير الغطاء النباتي على حساب العمران (صورة من الأقمار الاصطناعية- خالد طالب)
منطقة رحبة بعد تغيير الغطاء النباتي على حساب العمران بين عام 2020 و2025 (صورة من الأقمار الاصطناعية - خالد طالب)
خسارة الغطاء النباتي لمصلحة العمران
نحاول قدر المستطاع تتبّع الأرقام ومقاربتها، إلا أنّ المهمة ليست سهلة في ظل غياب التوثيق الرسمي لدى معظم الوزارات المعنية، ما يجعل الاعتماد الرئيسي على مبادرات فردية تقودها بعض الجهات، أبرزها المجلس الوطني للبحوث العلمية.
يستند هذا التوثيق إلى دراسة أُنجزت على مدى عشر سنوات، من عام 2005 حتى 2013، تحت عنوان "خسارة الغطاء النباتي لمصلحة التوسّع العمراني"، وهي دراسة تكتسب أهمية خاصة لأنها ترفد فرضيتنا الأساسية حول الحرائق المفتعلة عن سابق تصوّر وتصميم بهدف تغيير وجهة استخدام الأراضي.
منطقة برمانا عام 2016 (المصدر المجلس الوطني للبحوث العلمية)
منطقة برمانا عام 2024 وتوسع العمران فيها على حساب المساحة الخضراء (المصدر: المجلس الوطني للبحوث العلمية)
تُظهر بيانات المجلس الوطني للبحوث العلمية بوضوح أن قضاء عاليه يتصدّر نسب خسارة الغطاء النباتي لمصلحة العمران بمساحة تقدّر بـ37 هكتاراً، تليه منطقة صور بـ 33 هكتاراً، ثم المتن والشوف بنسبة متساوية بلغت 29 هكتاراً لكل منهما. بعدها تأتي كسروان بـ 17 هكتاراً، وجبيل بـ 16 هكتاراً، والبترون بـ10 هكتارات. أما منطقتا المنية–الضنية وبعبدا فسجّلت كلّ واحدة منها 8 هكتارات، تليها جزين بـ 6 هكتارات، والنبطية بـ 4 هكتارات، ثم عكار وصيدا بـ 3 هكتارات، وأخيراً حاصبيا وبنت جبيل بمعدل 2 هكتارين.
بناءً على هذه الأرقام، بلغت الخسارة الإجمالية في الغطاء النباتي 207 هكتارات، في مقابل مساحة محروقة ناجمة عن الحرائق الكبيرة تُقدّر بحوالي 1893 هكتاراً، بين 2021، 2022 و2023 و2025.
يبدو واضحاً أن المساحات التي يُعاد استغلالها بعد الحرائق تتوسع، والخسارة في الغطاء النباتي تتعمّق، من دون أيّ مساءلة فعلية أو تتبّع جديّ للأسباب.
منطقة عكار عام 2016 (المصدر: المجلس الوطني للبحوث العلمية)
منطقة عكار عام 2024 (المصدر: المجلس الوطني للبحوث العلمية)
بين القانون والواقع
شهد لبنان بين الأعوام 2019 و2021 واحدة من أكثر موجات الحرائق اتساعاً وخطورة، إذ التهمت النيران مساحات حرجية غير مسبوقة، قبل أن يتراجع هذا المنحى بشكل لافت بين 2022 و2024. وهذا الانخفاض لم يكن صدفة، بل جاء نتيجة إدراج وزارة البيئة ملف الحرائق ضمن أولوياتها، ما ساهم في خفض المساحات المحروقة بأكثر من 80% مقارنة بالعام 2021.
لكن هذا التحسّن لم يدم طويلاً. ففي عام 2025 عادت الحرائق بقوة، وانتشرت في مناطق مختلفة من الشمال إلى الجنوب، ما أعاد طرح السؤال الأكثر إلحاحاً: هل هذه الحرائق مفتعلة؟
من هنا ينطلق الدكتور جورج متري، مدير برنامج الأراضي والموارد الطبيعية في معهد الدراسات البيئية في جامعة البلمند، لتفكيك هذا السؤال عبر التمييز بين نوعين من الحرائق: الأول ناتج من الإهمال وغياب الوعي، كمفرقعات المناسبات، أو نار التخييم غير المطفأة، أو تنظيف الأراضي الزراعية بطريقة خاطئة، أو إشعال النار للتخلص من المخلفات الزراعية والنفايات.
والثاني، وهو الأخطر، والذي ينجم عن الحرائق التي تُشعل عن سابق إصرار وتصميم، بدوافع تتصل بالسعي إلى تغيير وجهة استخدام الأراضي عبر حرق غطائها الحرجي أو الأخضر، تمهيداً لاستغلالها بطرق مختلفة.
في الحالة الثانية، يوضح متري بأنّ بعض الحالات تُستخدم فيها النيران كأداة لتمهيد الأرض نحو غايات مختلفة، وترتبط - في أغلب الأحيان - بتغيير وجهة استخدامها. ورغم أنّ القانون اللبناني يمنع صراحةً أي تغيير في طبيعة الأراضي المحروقة لمدة لا تقلّ عن عشر سنوات، فإنّ الواقع يكشف فجوة كبيرة بين النصوص والتطبيق.
فغياب قاعدة بيانات واضحة لدى التنظيم المدني حول مواقع الحرائق ومساحاتها، وعدم وضع إشارات رسمية على هذه الأراضي، يفتح الباب واسعاً أمام التفلّت من الرقابة، ويجعل المخالفة تمرّ بلا أثر. وهكذا، يبقى الشخص الذي أحرق أرضه في الظلّ، ومن دون أن يظهر ذلك في أيّ سجل رسميّ، ما يطيح فعلياً بآليات المحاسبة ويُضعف قدرة الدولة على تتبّع المخالفات.
تجدر الإشارة إلى أنّ التشريعات اللبنانية، ولا سيما القانون الرقم 92، الصادر في 6 آذار 2010، تمنع تغيير استعمال الأراضي المتضررة من الحرائق بهدف حماية الغطاء الحرجي، ومنع استخدام النيران ذريعةً للتوسع العمراني غير القانوني. ومع ذلك، يبقى التطبيق هزيلاً والرقابة غير كافية.
منطق "كسر الأراضي"
انطلاقاً من هذا الواقع، يؤكد مدير برنامج الأراضي والموارد الطبيعية في معهد الدراسات البيئية في جامعة البلمند ضرورة بناء آلية توثيق دقيقة تتيح وضع إشارات واضحة على العقارات، التي تتعرض للحريق، بما يمنع أيّ محاولة لاحقة لتغيير وجهة استخدامها.
فغياب هذا النوع من التتبع يفتح الباب أمام ممارسات تُعرف شعبياً بـ"كسر الأراضي"، حيث يُعمد إلى إحراق جزء من العقار لتوسيعه على حساب أملاك الدولة أو الأراضي المجاورة، خصوصاً في المناطق التي تفتقر إلى وثائق رسمية ترسّم بدقة حدود الملكيات.
ولا يقتصر الأمر على الأهداف العقارية كتشييد مبانٍ أو مجمعات داخل المساحات المتفحّمة، بل يتعداه إلى دوافع أخرى مرتبطة بالمنفعة المباشرة. ويكشف متري عن لجوء بعض الجهات إلى إشعال الحرائق بهدف قطع الأشجار المحروقة وجمع الحطب وبيعه، وهي ممارسة سُجّلت في عدد من أكبر الحرائق خلال السنوات الماضية. وفي هذه الحالات، لا نتحدّث عن تصرّفات فرديّة، بل عن شبكات منظّمة تستغلّ المساحات المحترقة لتحقيق أرباح سريعة عبر تجارة الحطب، مستفيدة من ضعف الرقابة وغياب الضبط الميداني.
وقبل الخوض في النسب الفعلية للحرائق المفتعلة أو الدوافع الكامنة خلفها، يشدّد الخبراء على ضرورة تفعيل التحقيقات الجنائية في الحرائق كمدخل أساسي لأي مقاربة علمية. فغياب هذا المسار يجعل الإحصاءات المتاحة اليوم ناقصة وغير كافية لتحديد النسبة الحقيقية للحرائق التي تُشعل بهدف تغيير وجهة استخدام الأراضي.
ورغم هذا النقص، يشير الدكتور جورج متري إلى أنّ المراقبة الميدانية والمتابعة الطويلة تسمحان برسم معالم أولية للمشهد، حتى من دون أرقام رسمية مكتملة. وبناءً على ذلك، يمكن القول إنّ نسبة ما بين 60 و70 في المئة من الحرائق ناجمة عن الإهمال أو سوء الدراية (من المفرقعات إلى التخييم وتنظيف الأراضي وغيرها). أما النسبة الباقية، أي ما بين 30 و40 في المئة، فهي حرائق متعمدة، تُشعل عن سابق إصرار لتحقيق أهداف مختلفة، أبرزها تغيير وجهة استخدام الأراضي.
دلائل ورصد موثّق
يورد متري سلسلة دلائل رُصدت في السنوات الأخيرة: حرائق اندلعت في عقارات محددة قبل أن تُستتبع بعدها بوقت قصير بشق طرقات إليها، أو حرائق طالت مناطق ذات واجهات عقارية حسّاسة تمهيداً لتوسيع طرق أو فتح ممرات جديدة، وحرائق على أطراف الغابات لتعبيد طريق البناء لاحقاً.
وفي بعض الحالات، أُحرقت الأراضي ثم جرى مسحها سريعاً للاستحصال على إذن بناء بعد أشهر قليلة فقط. كذلك سُجّل لجوء البعض إلى شق طريق تحت ذريعة "الوصول لإطفاء الحريق"، قبل أن يتبيّن لاحقاً أنّ الهدف الحقيقي هو إيصال الطرق وخطوط الكهرباء إلى عقارات معيّنة.
ومن المعاينات الميدانية إلى الأرقام الموثقة، تُظهر البيانات الواردة في الجدول الآتي أن المساحات المحروقة، التي جرى تحويلها لاحقاً إلى استعمالات عمرانية موثقة، تشمل الأبنية والطرقات والمنشآت المتنوعة، بلغت 90944.62 متراً مربعاً بين عامي 2019 و2024. وتكشف هذه الأرقام عن نمط متكرر لتحويل الأراضي المتضررة من الحرائق إلى مشاريع عمرانية بدل العمل على إعادة تأهيلها أو الحفاظ على طابعها البيئي.
التوزيع المكاني بحسب الأقضية

استناداً إلى هذه الأرقام، يتبيّن بوضوح أن قضائي البترون والشوف يشكّلان معاً أكثر من نصف المساحات المحوّلة بعد الحرائق، أي ما نسبته 52 في المئة، فيما ترتفع النسبة لتصل إلى نحو 77 في المئة عند إدراج عكار وعالية. ورغم أن التحويلات العمرانية في الأقضية الأخرى تبدو أصغر حجماً، فإنها تبقى ذات دلالة، خصوصاً في المناطق الهامشية الواقعة بين الكتل العمرانية والغطاء الطبيعي.
يشير متري إلى أن هذه الأرقام تشمل حصراً المساحات الحرجية المحروقة التي جرى تحويلها إلى استعمالات عمرانية، موضحاً بأن الحجم الفعلي قد يكون أكبر بكثير إذا شملنا الأراضي العشبية والزراعية التي تعرضت للحرائق، وجرى استخدامها لاحقاً في مشاريع مشابهة.
التوزيع الزمني بحسب سنة الحريق

يُظهر الجدول الثاني المساحات التي جرى تحويلها استناداً إلى التوزيع الزمني للحرائق، حيث يبدو لافتاً أنّ حرائق عام 2019 وحدها كانت مسؤولة عن أكثر من 60 في المئة من مجمل حالات التحويل اللاحقة، ما يعكس شدّة تلك الحرائق من جهة، وغياب إجراءات الحماية الفعّالة بعد وقوعها من جهة أخرى. وفي المقابل، ما زالت التحويلات الناجمة عن حرائق 2021 و2022 و2024 محدودة حتى الآن.
ومنذ عام 2022، شهد لبنان انخفاضاً ملحوظاً في المساحات التي تتعرض للاحتراق، وهو انخفاض يُعزى بدرجة كبيرة إلى الدور الحيوي الذي لعبته وزارة البيئة السابقة في تعزيز الجهوزية الوطنية لمكافحة الحرائق. فقد تم تحسين التنسيق بين الجهات المعنية، وتفعيل خطط الاستجابة والمراقبة المحلية، فضلاً عن دفع الوزير السابق للبيئة بقوة نحو إخضاع المناطق المحروقة لأحكام القوانين المرعية الإجراء، والتشديد على عدم السماح بتحويلها إلى استعمالات عمرانية بعد الحريق، حفاظاً على حق تلك المناطق في التعافي واستعادة غطائها الحرجي.
الغموض في الملكيات يفتح باب التلاعب
أما في وزارة الزراعة، فيعترف الدكتور شادي مهنا، مدير التمنية الريفية في وزراة الزراعة، بأن الدولة تفتقر إلى أي بيانات أو سجلات موثوقة توثق الأراضي المحروقة التي جرى تغيير وجهة استخدامها. ويُعيد التذكير بالقانون الصادر في عام 2010، الذي يمنع بشكل صريح تعديل استعمال الأراضي المحروقة قبل عشر سنوات، خصوصاً لجهة البناء الذي يفترض حصوله على تراخيص من التنظيم المدني ونقابة المهندسين.
لكن المشكلة - وفق مهنا - لا تكمن فقط في النصوص القانونية، بل في الممارسة اليومية داخل البلديات. ويسترجع مثالاً صارخاً يتمثّل بتراخيص البناء بمساحة 150 متراً مربّعاً، التي عُمل بها من قبل البلديات لفترة، قائلاً إن هذه القرارات تفتح نافذة واسعة للمحسوبيات والزبائنية، خصوصاً في المواسم الانتخابية. ويشير إلى أن هذه الرخص تُمنح أحياناً في قلب الغابات والأحراج، وقد شهدت عكار نماذج كثيرة لمنازل شُيّدت في مناطق حرجية تُعدّ أصلاً من أملاك الدولة.
وتزداد خطورة الوضع مع غياب المسح العقاري الشامل في لبنان، إذ لا توجد حتى اليوم مساحة دقيقة أو حدود واضحة لكل العقارات. بعض المالكين ما زالوا يستندون إلى وثائق تعود إلى عهدَي الانتداب الفرنسي أو السلطنة العثمانية.
هذا الغموض في الملكيات يفتح الباب للتلاعب، إذ قد يحرق البعض جزءاً من الأرض بهدف إظهار مساحة إضافية تُحتسب ضمن ملكيته، مستفيداً من ثغرات قانونية ناجمة عن غياب ترسيمٍ حديث ودقيق للحدود. يقول مهنا بصراحة: "هذه الممارسات تحدث فعلاً، وسببها الأساسي هو غياب المسح العقاري الشامل".
أما عن دور وزارة الزراعة في مواجهة المخالفات، فيؤكد مهنا أن الوزارة تقوم بدورها عبر الفرق الفنية لمراقبة الأحراج والصيد، والتي تنظّم محاضر ضبط تُحال إلى النيابة العامة لاتخاذ الإجراءات القانونية. ومن هنا، تصبح مسؤولية الردع على عاتق القضاء. لكنه يقرّ بأن العقوبات الصادرة في السنوات الماضية، سواء في قضايا الحرائق أم في التعديات على الأحراج لم تكن بالصرامة الكافية لوقف هذه التجاوزات.
بعد تحليل البيانات، ومراجعة شهادات الخبراء والأقمار الاصطناعية، تبرز صورة واضحة: هناك نموذج يتكرر بدقة في مناطق مختلفة من لبنان. تبدأ القصة بنار تأكل الأطراف، ثم تُترك الأرض بلا توثيق رسمي، ثم يختفي غطاؤها النباتي تدريجياً. ولا شيء سيكسر هذه الحلقة إلا باحكام قضائية تمنع هذه الممارسات العشوائية وتحمي ما تبقى من مساحات خضراء.









0 تعليق