إحلال القلب في العقل... وصية غسان تويني للصحافة في زمن العواصف - وضوح نيوز

النشرة (لبنان) 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

نعرض لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى المقال الاتي:
إحلال القلب في العقل... وصية غسان تويني للصحافة في زمن العواصف - وضوح نيوز, اليوم السبت 13 ديسمبر 2025 10:55 صباحاً

 فاروق غانم خداج

كاتب لبناني وباحث في الأدب والفكر الإنساني

 

إنَّ كتابَ «سرّ المهنةِ وأصولِها» لغسانِ تويني (الصادر عام 1990 عن دار النهار) ليسَ مجرد دليلٍ تقنيٍّ للصحافة، بل هو رحلة فلسفية وإنسانية تكشف عن عقلٍ أراد للصّحافة أن تكون ضميرًا حيًّا ونبراسًا للحقيقة. يقدم تويني في هذا الكتاب وصيته المهنية، مؤلفًا بين صرامة الفيلسوف وحرارة الإنسان، ليصوغ رؤيةً للكلمة الحرة الصادقة في قلب العاصفة اللبنانية، حيث تتشابك السياسة بالحياة اليومية، وتختلط المصالح الشخصية بالمصالح الوطنية.

 

 

1. بين الفلسفة والحياة: منهج فكري متفرد

 

وُلد غسان جبران تويني عام 1926 في بيئة مثقفة، حيث كان والده جبران أندراوس تويني (1890-1947) المؤسس الحقيقي لصحيفة «النهار» عام 1933. درس غسان الفلسفة في الجامعة الأميركية في بيروت، وواصل دراساته العليا في جامعة هارفارد بالولايات المتحدة، مقتربًا من التفرغ للتدريس والأكاديميا.

 

لكن وفاة والده دفعته في ريعان شبابه إلى تحمل مسؤولية إدارة الجريدة، فجمع بين التكوين الفلسفي والنزعة العملية، مما شكّل منهجه الفريد في الصحافة.

 

استلهم تويني من كانط فكرة الواجب والحرية، وطبقهما على حقل الصحافة، مع استحضار مقولة القديس يوحنا الدمشقي: "إحلال القلب في العقل". وقد سعى تويني إلى صحافة تجمع بين تحليل العقل واعتبارات الضمير والإنسانية، معتبرًا أن المهنة لا تكتمل إلا بهذا التوازن الدقيق، حيث يصبح للخبر بعد إنساني وأخلاقي، وليس مجرد نقل معلومات سطحية.

 

2. السر الأعظم: ميثاق الثقة مع القارئ

 

يتمثل سر المهنة عند تويني في العلاقة الروحية بين الصحفي والقارئ. فهي ليست مجرد علاقة مرسل بمستقبل، بل حوار صامت بين ضميرين. فالصّحفي الحقيقي، في نظره، يكتب وهو يستحضر صورة القارئ المجهول الأمين الذي ينتظر الحقيقة.

 

ومن هنا كانت أخلاقياته صارمة؛ فالصّدق والاستقلالية شرطان لوجود المهنة، وليس فضيلتين تكميليتين. جسّد تويني هذه المبادئ في حياته، فكان يتحمل السجن دفاعًا عن حرية الرأي، وكان يرى أن الصحافة السُلطة الرابعة لا تكون سلطة إلا إذا حافظت على مسافة واحدة من جميع السلطات السياسية والمالية.

 

فالنهار، في نظره، لم يكن منبرًا لفئة، بل ساحة حوار للوطن كله، حيث تتلاقى مختلف الآراء وتُحترم اختلافاتها، بعيدًا عن الانحياز الحزبي أو المصالح الضيقة.

 

3. الصحافة في أتون المأساة: الاختبار الأصعب

 

عاش تويني تحولات لبنان من موقع الصحافي والنائب والسفير، فخلال الحرب الأهلية، حوّل «النهار» إلى منارة للحوار العقلاني في زمن الجنون. وفي عام 1978، كسفير للبنان لدى الأمم المتحدة، ساهم في إصدار القرار الدولي 425، ورفع صرخته الشهيرة: "اتركوا شعبي يعيش"، مُعبرًا عن التزامه بحق لبنان في السلام والكرامة.

 

لكن اختبار مبادئه الأقسى جاء من صميم مأساة شخصية. فبعد اغتيال ابنه جبران غسان تويني (الحفيد، 1957-2005) – ناشر «النهار» ورئيس تحريرها – لم ينكفئ. بل حول الألم إلى فعل، ونشر شهادات شخصية عميقة عن الفقد، مؤكدًا أن الكلمة الصادقة هي سلاح الإنسان في مواجهة العدمية والعنف.

 

لقد اختبر تناقض المهنة: كتابة الخبر الزائل يومًا بعد يوم، مع الحلم الدفين بتأليف كتاب يخلد قيم الصحافة الحقيقية. وقد عبّر عن هذا التناقض بوعي كامل، إذ يرى أن الصحافي يعيش بين حياة الخبر القصير وأبدية الحقيقة العميقة، حيث أن كل مقال وكل تحليل يجب أن يحمل بعدًا إنسانيًا وأخلاقيًا، ليس فقط معلومات جافة.

 

 

 

4. الوصية الخالدة: كتاب لما بعد الزمن

 

صمّم تويني كتابه «سر المهنة» ليكون مرجعًا للمكتب والصحافي المستقبلي، وليس للقراءة العابرة. أودع فيه الوثائق والتجارب، ليكون مادة خام للتاريخ وللأجيال الصحافية القادمة، مؤكدًا أن الصحافة الحقيقية هي التي تبقى بعد الزمان، وأن قيمة الكلمة الصادقة لا تقاس بزمنها فقط، بل بتأثيرها على ضمير القارئ والمجتمع.

 

ومن المدهش أن تويني، في أحد حواراته، اعترف بأنه "لم يقرأ كتابه بعد، خوفًا من ذلك"، لأن المراجعة النقدية لمواقف الماضي قد تُعيد صياغة الإنسان، وتعيد تقييم كل تجربة. وهذه الروح النقدية المتواضعة هي جوهر إنسانيته، حيث يضع نفسه أولًا تحت محك الأخلاق قبل محك النجاح المهني.

 

 

5. الخاتمة: كلمة الضمير

 

ترك غسان تويني مدرسة فكرية قائمة على العقل والقلب، حيث يتجسد سر المهنة الحقيقي ليس في نقل الخبر فقط، بل في السبب الذي ننقله من أجله، والروح التي ننقله بها.

 

في زمن الضجيج والزيف، تهمس وصيته لكل حامل قلم: الكلمة الصادقة والمتزنة، الصادرة عن ضمير حي، تبقى أَبْقَى من كل صخب، وأقوى من كل عنف. إنها سلطة الحقيقة الوحيدة التي لا تزول، ومرآة الإنسان أمام نفسه وأمام التاريخ.

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق