نعرض لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى المقال الاتي:
الطريق إلى الوطن: رحلة في وجدان كمال جنبلاط وروح لبنان - وضوح نيوز, اليوم الخميس 18 ديسمبر 2025 09:05 صباحاً
كاتب لبناني وباحث في الأدب والفكر الإنساني
في هذا الكتاب، يفتح محسن دلول ويوسف مرتضى نافذة نادرة على وجدان كمال جنبلاط، ليعيدا إلى القارئ لبنان كما لم يُروَ من قبل. فكتاب «الطريق إلى الوطن: ربع قرن برفقة كمال جنبلاط» لا يكتفي بتوثيق مسيرة زعيم استثنائي، بل يقترح قراءة عميقة في قلب رجل رأى في لبنان مشروعًا أخلاقيًا قبل أن يكون دولة، وفي السياسة رسالة إنسانية قبل أن تكون سلطة.
الطبعة الجديدة الصادرة عام 2025 عن دار نوفل/ هاشيت أنطوان، والواقعة في 284 صفحة، تضيف إلى المتن بُعدين لافتين من خلال مقدمتين وقّعهما كل من وليد جنبلاط وجان عبيد، رابطتين الماضي بالحاضر، ومُسبغتين على الكتاب ثقلا تاريخيًا ورمزيًا يفرض حضوره منذ الصفحات الأولى.
يمثّل الكتاب تعاونًا فريدًا بين شاهد مباشر ومحلّل موضوعي. فمحسن دلول، الملقّب بـ«أبي نزار»، رافق كمال جنبلاط على مدى خمسة وعشرين عامًا، متنقّلا معه بين المسؤوليات النيابية والوزارية، ومشاركًا في لحظات دقيقة من تاريخ لبنان الحديث. وإلى جانبه، يقدّم يوسف مرتضى، الصحافي والإعلامي، قراءة تحليلية هادئة توازن حرارة الشهادة، وتمنح السرد بعده التفسيري دون أن تُفرغه من صدقه. هذا المزج بين الذاكرة والتحليل يمنح الكتاب نسيجه الخاص، ويجعل قراءته تجربة شاملة تمزج بين الوقائع التاريخية والبعد الفكري.
منذ الصفحات الأولى، يشعر القارئ بأنه أمام علاقة تتجاوز السياسة إلى ما يشبه التلمذة الروحية. يكتب دلول عن جنبلاط بلغة مشبعة بالمحبّة والاحترام، لا كزعيم فحسب، بل كمعلم أسهم في تشكيل وعيه ومساره. تكشف هذه اللغة عمق التأثير الإنساني والفكري، وتفتح نافذة على عالم من الحوارات واللقاءات، من قصور المختارة إلى صالونات المثقفين، حيث كانت السياسة تُناقَش باعتبارها شأنًا أخلاقيًا. وفي إحدى هذه الجلسات، بحضور الأب ميشال حايك، تتردّد عبارة كمال جنبلاط الشهيرة: «إن قانون حقوق الإنسان لا يجوز أبدًا أن يكون رهن إشارة حاكم»، عبارة تختصر فلسفة رجل رأى في الحرية قيمة غير قابلة للمساومة.
يبرز الكتاب كمال جنبلاط مفكرًا استراتيجيًا سبق زمنه، لا زعيمًا طائفيًا أسير لحظته. فقد أدرك مبكرًا أن القومية اللبنانية ليست معطًى نهائيًا، بل مشروعًا قيد التكوين، وأن الصهيونية، بما تحمله من منطق إقصائي، ستغذّي الانقسامات الطائفية وتضرب البنية الوطنية من الداخل. من هنا، جاء مشروعه الإصلاحي قائمًا على الدولة المدنية، وعلى إعادة تكوين المؤسسات خارج القيد الطائفي، وعلى ربط الديمقراطية بالعدالة الاجتماعية بوصفهما مسارين متلازمين لا ينفصلان. وربما تكمن مأساته الكبرى في أنّ لبنان لم يكن مستعدًا بعد لإنسان يسبق دولته أخلاقيًا.
ولم يتردّد جنبلاط في نقد العلاقات العربية التقليدية، داعيًا إلى سياسة خارجية أكثر استقلالا وتوازنًا، تحمي القرار الوطني من الارتهان. وقد تجلّت هذه الرؤية في لقاءاته مع قادة العالم العربي، ومنها لقاؤه بالملك فيصل بن عبد العزيز بعد حرب تشرين 1973، حيث ناقش بجرأة مسألة السلاح الغربي والروسي ودورهما في الصراعات الإقليمية، مستثمرًا هذه اللقاءات لطرح حلول عملية من موقع الاحترام لا التبعية.
وعند التوقّف أمام الحرب الأهلية اللبنانية، يقدّم الكتاب أحد أكثر فصوله إيلامًا وعمقًا. لا يكتفي دلول بسرد الوقائع، بل يكشف عن قلق رجل كان همه الدائم منع الانزلاق إلى الهاوية. يظهر كمال جنبلاط وسيطًا لا يكلّ، ساعيًا إلى المصالحة حتى مع خصومه، مدركًا أن نار الفتنة إذا اشتعلت لن توفّر أحدًا. وتشكل حادثة الكحالة، حين أُطلقت النار على حافلة فلسطينيين وكادت تشعل مواجهة دامية، مثالا صارخًا على دوره الإنساني، إذ تدخّل مباشرة لدى القائد الفلسطيني الراحل أبو يوسف النجار، وأقنعه بضبط النفس وتنظيم تبادل تعازٍ، مجنّبًا البلاد انفجارًا مبكرًا.
أما اغتياله في 16 آذار 1977، فيقدّمه دلول بوصفه نتيجة منطقية لثباته على المبدأ. فبعد قيادته للحركة الوطنية ودخوله في صدام مع النظام السوري، رُفعت في وجهه الإغراءات والوساطات، لكنه رفض أي تسوية لا تقوم على إصلاح سياسي جذري. حتى رحلته الأخيرة إلى مصر للقاء الرئيس أنور السادات، وما رافقها من استهداف لسفينته في البحر، بدت محاولة أخيرة للبحث عن مخرج. دفع كمال جنبلاط حياته ثمنًا لرفضه التزلف، مفضّلًا الصدق مع قناعاته على الانسجام مع موازين القوى.
في زمنٍ يبدو فيه لبنان بلا بوصلة، تأتي إعادة قراءة كمال جنبلاط فعلَ مقاومة فكرية. فالأزمة الراهنة ليست مالية أو دستورية فحسب، بل أخلاقية في جوهرها، تمامًا كما كان يحذّر جنبلاط حين ربط انهيار الدولة بانفصال السياسة عن القيم. من هنا، لا يبدو هذا الكتاب استعادةً لسيرة رجل، بل مساءلةً صامتة لواقعنا المعاصر.
في المحصّلة، «الطريق إلى الوطن» ليس كتاب ذاكرة فحسب، بل وصية مفتوحة للأجيال. هو جهد واعٍ لتدوين التاريخ كما عُيش، قبل أن يُكتب من زوايا المصالح. إنه جسر بين الماضي والحاضر، يتيح لمن لم يعاصر كمال جنبلاط أن يقترب من روحه: الفيلسوف المتصوّف، والسياسي الثائر، والإنسان الذي آمن بأن مهمة السياسة هي إقامة العلاقة الصحيحة بين حركة الإنسان وحركة التاريخ. في هذا المعنى، يشكّل الكتاب شهادة حيّة على أن الوطنية الحقيقية لا تُقاس بالشعارات، بل بمدى الإخلاص للحقيقة، وللإنسان، وللوطن حين يكون في أشدّ لحظات ضعفه.



0 تعليق